وقوله تعالى: (أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣)
(أَتَّخَذْنَاهُمْ)
يقرأ بقطع الألفِ وفتحها على مَعْنَى الاستفهام (١)
ومن وصلها كان على
معنى. إنا اتخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا، ويقرأ (سِخْرِيًّا) و (سُخْرِيًّا) - بالكَسْر والضمِ.
والمعنى واحد،.
وقَدْ قَال قَوْمٌ: إن ما كان من التسخير فهو مضموم الأول.
وما كان من الهزؤ فهو مكسور الأول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
أي إن وَصْفَنَا الذي وصفناه عَنْهُم لَحَق (٢)
ثم بين ما هو فقال: هو
تخاصم أهل النار، وهذا كله على معنى إذا كان يومُ القيامة
قال أهل النار كذا وكذلك كلُّ شيء في القرآن
مما يحكي عن أهل الجنة والنار.
* * *
ْ (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥)
أي قل إنك تنذر، وإنك تدعو إلى توحيد اللَّه.
وَلَوْ قُرِئَتْ: (إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ) - بالنصب - لجَازَتْ ولكنهُ لَم يقْرأ بها، فَلَا تقرأن بها.
ومن نصب فعلى الاستثناء، ومن رفع فعلى معنى ما إله إلا اللَّهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)
أي قل النبأ الَّذِي أنبأتكم به عن اللَّه - عزَّ وجلَّ - نبأ عَظِيم، والذي
أنبأتكمْ به دليل على نُبُوتي.
يعني ما أنبأكم به النبي - ﷺ - من قصة آدم
وإبليس، فإن ذلك لا يعلم إلا بقراءة الكُتُبِ أو بِوَحْي من اللَّه، وقد علم
الذين خاطبهم النبي - ﷺ - أنه لم يقرأ كتاباً ولا خطه بيمينهِ ولا كان رَيْبٌ فيما يخبر به أنه وحيٌ ثم بيَّنَ ذلك فقال:
* * *
(مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
قوله: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾: قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل «رِجالاً» كما وقع «كنا نَعُدُّهم» صفةً، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله:
٣٨٧٦ تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ... وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ. والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ. والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ. وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي: رجالاً مَقُولاً فيهم: أتخذناهم كقوله:
٣٨٧٧ جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ. وقد تقدَّم الخلافُ في «سِخْرِيَّاً» في ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾. والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر:
٣٧٧٨ إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك. وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك: «أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ»، ويجوزُ أنْ يكونَ «أم زاغَتْ» متصلاً بقوله: «ما لنا» لأنه استفهامٌ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ «أتَّخَذْناهم» بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿تَخَاصُمُ﴾: العامَّةُ على رَفْعِ «تَخاصُمُ» مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنَّه بدلٌ مِنْ «لَحَقٌّ». الثاني: أنه عطفُ بيانٍ. الثالث: أنه بدلٌ مِنْ «ذلك» على الموضعِ، حكاه مكي، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين. الرابع: أنه خبرُ ثانٍ ل «إنَّ». الخامس: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تخاصُمُ. السادس: أنه مرفوعٌ بقولِه «لَحَقٌّ». إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال: «ولو قيل: هو مرفوعٌ ب» حَقٌّ «لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم» إن «. وهذا ردٌّ صحيحٌ. وقد يُجابُ عنه: بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي: لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور﴾ [الشورى: ٤٣] أي: منه. وقرأ ابن محيصن بتنوين» تخاصم «ورفع» أهلُ «فَرَفْعُ» تخاصُمٌ «على ما تقدَّم. وأمَّا رَفْعُ» أهلُ «فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك:» يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون «أي: أنْ تخاصَموا. وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ.
وقرأ ابنُ أبي عبلة» تخاصُمَ «بالنصب مضافاً لأهل. وفيه أوجه، أحدها: أنه صفةٌ ل» ذلك «على اللفظِ. قال الزمخشري:» لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس «. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو:» يا هذا الرجلُ «، ولا يجوز» يا هذا غلامَ الرجل «فهذا أبعدُ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً، وإلاَّ كان بدَلاً و» تخاصُم «ليس مشتقاً. الثاني: أنه بدلٌ من ذلك. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ. الرابع: على إضمارِ» أعني «. وقال أبو الفضل:» ولو نُصِبَ «تخاصم» على أنَّه بدلٌ من «ذلك» لجاز «انتهى. وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً. وقرأ ابن السَّمَيْفع» تخاصَمَ «فعلاً ماضياً» أهل «فاعلٌ به. وهي جملةٌ استئنافيةٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).