(فصل في بيان حكمة الله تعالى في جعله بعض الآيات متشابهاً)
سُئل بعض العابدين، فقيل له: ما بال القرآن جعل بعضه محكماً وبعضه متشابهاً؟ وهلاَّ جعل كله على نمط المحكم حتى كان يكفي الإنسان مؤونة النظر الذي قل ما سلم متعاطيه من زلة؟ وهذه مسئلة نسأل عنها في الأحكام أيضاً فنقول: هلاَّ بينها كلها حتى يستغنى عن جهد الرأي الي لا يؤمن خطؤه؟ بل سئل عنها أيضاً في أصل التكليف، فيقال: هلاَّ خوّلنا الله إنعامه بلا مشقة ولا مؤنة حتى كان عطاؤه أهنأ منالاً؟ فقال: (الجواب) عن جميع ذلك واحد، وهو أن الله تعالى خص الإنسان بالفكر والتميز، وشرفَهُ بهما، حتى قال تعالى: ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾، وجعله بذلك خليفة في الأرض فقال للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وقال تعالى: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، وقال تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، وكفاه شرفاً بما أعطاه من هذه المنزلة أنه قد يصير لأجلها شريفاً موصوفاً بالعلم والحلم والحكمة، وكثير من الصفات التي هي من صفاته تعالى، وإن لم تكن على حَدَّها وحقيقتها.
ولما خصه الله تعالى بهذه الفضيلة - أعني بالفكر والروية - أعطاه كل ما أعطاه من المعارف قاصرة عن درجة الكمال، ليكمله الإنسان بفكرته، لئلا تتعطل فائدتها، وإلا كانت موجداً لما لا فائدة فيه، وذلك شنيع يُنزه عنه الباري سبحانه، وعلى ذلك أحوال كل ما أوجده لنا من المأكولات والمشروبات، لأنه أوجد لنا أصول الأغذية، ثم هدانا بما خولنا من التميز إلى تركيبها، وتناول ما يحتاج إليه على الوجه الذي يحتاج وفي الوقت الذي يحتاج.
فإذا ثبت ذلك فتأويل كتاب الله تعالى وأحكام شرائعه وسائر معانيه قسمان: