ثم ليس من شرط المتكلم أن يخطر ببياله كيفيه وضع اللفظ من حقيقة ومجازٍ، وأيضاً: فما من لفظ مستعمل في شيئين: حقيقة فيهما أو مجازاً في أحدهما إلا ويجمعهما معنى عام لهما على طريقة من يراعي مناسبة الألفاظ، نحو أن يقال: اتق الأسد والحمار، ويعني " بالأسد ": الحيوان الجرئ، و " بالحمار ": الحيوان البليد، وذلك متناول للبهيمة والإنسان معاً، فيصح أن يرادا كما لو قال: الحيوان الجرئ والحيوان البليد.
ومما يحمل من القرآن على ذلك قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾، وذلك عام في الإنسان وغيره، وقد علم أن الإنسان يسبح بلسانه وفعاله، والجمادات ليست تسبح كذلك وقد قرئهما بلفظ واحد، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ قيل: عنى بذلك الغني بالكفاية والغني بالقناعة معاً، وأمثال ذلك في القرآن أكثر من أن تحصى ههنا.
ولمثل هذه المعاني المجتزعة فيه قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾، وعلى ذلك روي في الخبر " لكل حرف " ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع تنبيهاً على كثرة معلنيه المجتمعة تحت اللفظة بعد اللفظة...
(فصل في إعجاز القرآن)
المعجزات التي أتى بها الأنبياء - عليهم السلام - ضربان: حسي وعقلي: فالحسي: ما يدرك بالبصر، كناقة صالح، وكوفان نوح، ونار إبراهيم وعصى موسى - عليهم السلام - والعقلي: ما يدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلم، فأما الحسي: فيشترك في إدراكه العامة والخاصة، وهو أوقع عند طبقات العامة، وأخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلا أنه لا يكاد يفرق - بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين ما يكون كهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتفاقياً، أو مواطأة، أو احتيالاً هندسياً، أو تمويهاً وافتعالاً - إلا