كان لا سبيل إلى لقائها وتناولها والانتفاع بها إلا لمن جلى بصيرته لرؤيتها، وطهر قلبه بقبولها، وقد نبه تعالى على ذلك بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾ والكافر من حيث لم يجل البصيرة لم يرها، وإذا لم يرها لم يتناولها، وإذا لم يتناولها، صح أن يقال: " هو ممنوع منها ومصروف عنها "، كما قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ ثم بين سببه فقال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ وتصور بعض الناس أن ذلك الختم منع من الله تعالى للكافر عن الإيمان، واستدل به على جواز تكليف ما لا يستطاع، وهذا تصور فاسد، فالإنسان في هذه الحالة، وإن كان لا سبيل له إلى الإيمان في الحال، فذلك بما كسبت يداه من إهمال نفسه، فما فسد بينهما من يده، فإنه وإن كان لا يقدر على رده، فقد كان من قبل سهلاً عليه أن يضبطه فلا يرمي به، ألا ترى أنه تعالى قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ فجعل الكفر علة للطبع على قلوبهم، وقال بعض المتكلمين: إن الختم والكن لو كان مانعاً من الإيمان، لما أنكر الله تعالى على الكفار حيث قالوا ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ وليس بصحيح استدلاله، وذاك أن هذا المنع حاصل، لكن هو من جهتهم على ما تقدم، والقوم لم يتصوروا ذلك، فلذلك أنكر الله عليهم ما قالوه، وأما ما قاله أبو علي الجبائي في أن " الختم " سمة جعلها الله تعالى في قلوب الكفار دلالة للملك على كفرهم كالكتابة في قلوب المؤمنين ليعرفوا بها الاعتقادات التي لا تظهر بالجوارح، فإن هذا كما قال الشاعر:
تخرصا وأحاديثا ملفقة... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
وذاك أن هذا الحكم لا سبيل إلى إثباته إلا بسمع غير محتمل، وأيضا فإن هذه الكتابة إن كانت