[١١/أ] / ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِيَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩)﴾ [الأنعام: الآيتان ٩٨، ٩٩].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨)﴾ [الأنعام: آية ٩٨].
هذه الآياتُ من سورةِ الأنعامِ بَيَّنَ اللَّهُ فيها براهينَ العقائدِ العقليةَ الدالةَ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، ومن ذلك أنه خَلَقَ جميعَ الآدَمِيِّينَ من نفسٍ واحدةٍ، أَبُوهُمْ رجلٌ واحدٌ، وَأُمُّهُمْ امرأةٌ واحدةٌ، مع اختلافِ أشكالِهم، وألوانِهم وَأَلسنتِهم، وذلك دليلٌ على إبداعٍ عظيمٍ. وَاللَّهُ (جل وعلا) يُنَبِّهُنَا في القرآنِ العظيمِ في آياتٍ كثيرةٍ على ما أَوْدَعَ في أَنْفُسِنَا من غرائبِ صنعِه وعجائبِه الدالةِ على أنه وحدَه هو الربُّ، وهو المعبودُ وحدَه جل وعلا.
وقولُه هنا: ﴿وَهُوَ﴾ أي: اللَّهُ الذي أدعوكم إلى توحيدِه وطاعتِه، ﴿وَهُوَ الَّذِيَ أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أصلُ الإنشاءِ: الإبرازُ من العدمِ إلى الوجودِ (١) والمرادُ بهذه النفسِ الواحدةِ: أَبُونَا آدمُ، كما أَطْبَقَ عليه العلماءُ (٢).
_________
(١) انظر ابن جرير (١١/ ٥٦٢).
(٢) السابق.
سورة الأعراف
قوله تعالى: ﴿المص (١) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (٣)﴾ [الأعراف: ١ - ٣] قد تَكَلَّمنا فيما مضى مراراً على الحروف المقطعة في أوائل السور، وذكرنا كلام العلماء فيها، وسَنُلِمُّ هنا ببعض قليل منه. رُوي عن ابن عباس وغيره أن قوله: ﴿المص (١)﴾: أنا الله أَفْصِل (١). كما روى عنه: «أنا الله أعلم» (٢) في ﴿الم﴾.
ورُوي عن جماعة أن الألف واللام والميم والصاد أنها من أول اسمه المُصوِّر (٣)؛ لأن اسمه المُصوِّر تحته غرائب وعجائب تُبْهِر
_________
(١) أخرجه ابن جرير (١٢/ ٢٩٣)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص١٢٠، والنحاس في القطع والائتناف ص١١١، وإسناده ضعيف وعزاه السيوطي في الدر (٣/ ٦٧) لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وأبي مردويه.
(٢) أخرجه ابن جرير (١/ ٢٠٧)، وابن أبي حاتم (١/ ٢٧)، والنحاس في القطع والائتناف ص١١٠ - ١١١، وإسناده ضعيف، وعزاه في الدر (١/ ٢٢) إلى وكيع، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(٣) انظر: ابن جرير (١٢/ ٢٩٣).
﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (٩٧) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (١٠١)﴾ [الأعراف: الآيات ٩٧ - ١٠١].
يقول الله جل وعلا: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ (٩٧) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (٩٩)﴾.
بيّن الله (جل وعلا) هنا إنكاره على أهل القرى الذين كفروا به وكذبوا رسله وعارضوا [شرعه] (١) وأمنوا مكره، وبيّن (جل وعلا) تفاهة عقولهم وعدم علمهم، وأنكر عليهم بأداة همزة الإنكار ليفتحوا آذانهم ويخافوا عقاب الله ولا يأمنوا مكره.
ولذا قال: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ [الأعراف: آية ٩٧] قدمنا مرارًا كثيرة (٢) كلام العلماء على همزة الاستفهام التي بعدها أداة
_________
(١) في هذا الموضع كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٥) من سورة البقرة.
﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ (٣٨) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)﴾ [الأنفال: الآيات ٣٨ - ٤٠].
﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ (٣٨)﴾ [الأنفال: الآية ٣٨].
لمّا بين الله (جل وعلا) أن الكفار يُحشرون إلى جهنم، وأنهم يضم بعضهم إلى بعض فيُركم بعضهم فوق بعض فيجعلون في نار جهنم، أمر نبيه ﷺ أن يقول لهم: إنهم إن انتهوا عما هم عليه من الكفر، ورجعوا إلى ما يرضي ربهم فآمنوا به وصَدَّقُوا رَسُولَهُ، يُغْفَرْ لهُمْ جَمِيع ما سلف منهم من الكفر، ولا يكون عليهم ذَنْب من جميع ما مضى. ﴿قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يا نبي الله قل لهم ﴿إِن يَنتَهُواْ﴾ لم يقل له: خاطبهم، حتى يقول: إن تنتهوا يُغْفَر لكم ما قد سلف. كأنه أمره بتبليغهم: إن ينتهوا عما هم عليه من الكفر يُغفر لهم، وحذف الفاعل؛ لأن من المعلوم أنه لا يَغْفِرُ ما سَلَفَ إلا اللهُ وَحْدَهُ، ليس هو ذلك غيره، يحتمل أن يكون هو الفاعل؛ ولذا حَذَفَ الفَاعِلَ لِلْعِلْمِ به وعَدَمِ الحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ؛ لأنه معروف ﴿يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ وقوله: ﴿مَّا قَدْ سَلَفَ﴾ أي: ما مَضَى قبل انتهائهم من جميع ما ارتكبوه من أنواع الكفر والمعاصي، وهذا معنى قوله: {إِن يَنتَهُواْ