وإنما قال: ﴿وَاحِدَةٍ﴾ بالتاءِ الفارقةِ بين الذكرِ والأنثى مع أن آدمَ ذَكَرٌ (١) لأنه أَطْلَقَ عليه اسمَ النفسِ، فهو تَأْنِيثٌ لفظيٌّ لاَ حقيقيٌّ، كقولِ الشاعرِ (٢):

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيْفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
هذه النفسُ الواحدةُ هي: آدمُ. واللَّهُ (جل وعلا) أَرْشَدَنَا في هذه الآيةِ إلى أَنْ نتأملَ وَنَتَعَقَّلَ مِمَّ خُلِقْنَا، وما العنصرُ والأصلُ الذي خُلِقْنَا منه؛ لنعرفَ أقدارَنا، ونعرفَ عظمةَ ربنا، فأولُ مَنْشَئِنَا تُرابٌ بَلَّهُ اللَّهُ (تبارك وتعالى) بماءٍ، هذا الأصلُ الأولُ لنا، كما قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّنْ تُرَابٍ﴾ [الحج: آية ٥]، أَخَذَ اللَّهُ تُرَابًا فَبَلَّه بماءٍ، فَلَمَّا بُلَّ وَعُجِنَ بالماءِ صارَ طينًا؛ وَلِذَا قال تارةً: ﴿خَلَقَكُم مِّنْ تُرَابٍ﴾ [الروم: آية ٢٠]، وتارةً: ﴿مِّنْ طِينٍ﴾ [الأنعام: آية ٢]. ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) ذَكَرَ أحوالَ ذلك الطينِ، مرةً قَالَ: ﴿مِّنْ طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ [الصافات: آية ١١] يَلْزَقُ باليدِ إذا مَسَّهُ الإنسانُ، بَيَّنَ أنه: ﴿مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: آية ٢٦]، ثم بَيَّنَ أن ذلك الطينَ يبسَ فصارَ صلصالاً كالفخارِ، تسمعُ له صلصلةً إذا قَرَعَهُ شيءٌ، ثم خَلَقَ من ذلك الطينِ -الذي أصلُه ماءٌ وترابٌ، خَلَقَ منه- بَشَرًا سَوِيًّا، ذا لحمٍ وعظامٍ وَدَمٍ، هو أَبُونَا (آدمُ) المرادُ بقولِه هنا: ﴿أَنْشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [الأنعام: آية ٩٨]، ثم خَلَقَ من آدمَ امرأتَه (حواءَ) أُمَّنَا، خَلَقَهَا من زوجِها آدَمَ، وقد نَصَّ على ذلك في آياتٍ كثيرةٍ (٣) كقولِه في أولِ سورةِ النساءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) انظر: الأضواء (٢/ ٢٠٥).
العقول، إذا رأيتم الناس يوم جمرة العقبة مجتمعة من أقطار الدنيا وجدتموها على صَبَّة واحدة: الأنف ها هنا، والعينان ها هنا، والفم ها هنا، على نمط وأسلوب واحد، مع أنه لم تشتبه صورة رجل بصورة رجل حتى لا يُفرَق بينهما، ولا صورة امرأة بصورة امرأة، فكل منهم له صورة يُطبع عليها، سابق علم الله بها، مُنفَّذ في تصويره بها. وهذا مما يدل على كمال وعظمة خالق السماوات والأرض.
ولكن تفسير الحروف المقطعة بأنها تدل على حروف من أسماء الله، هذا التفسير وإن قال به بعض أهل العلم، وإن كان له أصل في الجملة في اللغة العربية؛ لأن من أساليبها: وضع الحرف مراداً به الكلمة، كما قال الراجز (١):
قُلْتُ لهَا: قِفِي فَقَالَتْ لِي: قَافْ... لاَ تَحْسَبِي أنَّا نَسِينَا الإِيجافْ
يعني بقوله: «قاف» وقفت. ومنه قول الآخر (٢):
بِالخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرّاً فَا... وَلاَ أُرِيدُ الشَّرَّ إِلاَّ أَنْ تَا
يعني: وإن شرّاً فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء. فجاءوا بالحرف واستغنوا عن الكلمة.
لكن هذا التفسير لم يقم عليه دليل، ولا يجب الرجوع إليه. وقد يفتح باب هذا التفسير للباطنية الزنادقة حيث يفسرون الكلام برموز وألغاز غير مرادة.
_________
(١) البيت للوليد بن عقبة. وهو في ابن جرير (١/ ٢١٢)، تأويل مشكل القرآن ص٣٠٨.
(٢) البيت لتميم بن أوس. وهو في ابن جرير (١/ ٢١٣)، الكتاب لسيبويه (٣/ ٣٢١).
عطف كالفاء والواو وثم. والهمزة هنا للإنكار، ومعنى إنكاره على أهل القرى جمعهم بين الكفر به، وتكذيب رسله، وعدم خوفهم من بطشه ونكاله، فهذا يدل على غاية الجهل بالله؛ ولذا قال: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ جمع قرية على غير قياس ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا﴾ أي: يأتيهم عذابنا ونكالنا وإهلاكنا المستأصل، والبأس: العذاب والنكال من الله (جل وعلا) بسبب كفرهم بنا وتكذيبهم لرسلنا.
﴿أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا﴾ [الأعراف: آية ٩٧] قوله: ﴿بَيَاتًا﴾ أي: ليلاً، والحال: ﴿وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ [أي: في غفلة] (١) فيأتيهم في تلك الغفلة ﴿بَأْسُنَا﴾ أي: عذابنا فنهلكهم. وهذا معنى قوله: ﴿بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ أي: ليلاً في حال كونهم نائمين. والليل معروف، وهو الذي تشاهدونه من ظلام.
﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى﴾ [الأعراف: آية ٩٨] في هذا الحرف قراءتان سبعيتان: قرأه جماهير القراء غير الحرمِيَّيْنِ والشامي: ﴿أَوَ أمن أهل القرى﴾ بفتح الواو، كأنه تكرير للجملة بما يماثلها. وقرأه الحرميان -أعني: نافعًا وابن كثير- والشامي-أعني ابن عامر-: ﴿أَوْ أمن أهل القرى﴾ بـ (أو) العاطفة، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان فصيحتان (٢).
﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى﴾ الضحى: هو وقت ارتفاع النهار.
_________
(١) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٠ - ٢١١.
يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} ﴿وَإِن يَعُودُوا﴾: اختلف العلماء في المراد بالعَود هنا (١)، فقال بعض العلماء، هذه الآيات من سورة الأنفال نزلت بعد وَقْعَةِ بدر، والمعنى ﴿وَإِن يَعُودُوا﴾ للقتال كما فعلوا يوم بدر ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ﴾ أي: طَرِيقَة الله فيما مضى بين رسله وأتباعهم وبين الكفرة (٢).
قال بعض العلماء: ﴿الأَوَّلِينَ﴾ يعني الذين هلكوا منكم فقتلوا وأُسروا يوم بدر، مضت سنة الله فيهم، فأَظْهَرَ علَيْهِمْ نَبِيَّهُ، ونصره عليهم، فإن عدتم إلى القتال أجرى عليكم تلك السنة؛ لأنه لا تجد لسنة الله تبديلاً. وقال بعض العلماء: المراد بالأولين الأمم الماضية ممن قبلنا؛ لأَنَّ كُلَّ أمَّةٍ كَذَّبَتْ رسولَها وتمرَّدَتْ عَلَى رَبِّهَا أهلكها الله (جل وعلا)، يعني: وإن تعودوا إلى ذلك الكفر والطغيان أهلككم كما فعل بجميع الأمم قبلكم ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ (٤٤)﴾ [المؤمنون: الآية ٤٤]، وهذان الوجهان في قوله ﴿سُنَّتُ الأَوَّلِينَ﴾ أي: سنة الله فيهم، وأصل السنة: الطريقة والشريعة، والشريعة في اللغة: الطريق، والشرائع: الطرق، وكون السنة هي الطريق الذي يمشي عليه أمر معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته (٣):
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهُمْ آبَاؤُهُمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمَامُهَا
أي: طريقة متبعة، وطريقة الله مع الكفرة أنهم إن كذبوا رسله
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٣٦)، القرطبي (٧/ ٤٠٣).
(٢) المصدران السابقان.
(٣) شرح القصائد المشهورات (١/ ١٧٤).


الصفحة التالية
Icon