وَاحِدَةٍ} هي آدمُ ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: آية ١]، يعني حواءَ، وكقولِه في سورةِ الأعرافِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: آية ١٨٩].
وقولِه في سورةِ الزمرِ: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [الزمر: آية ٦] وهذا مِنْ غرائبِ صنعِه وعجائبِه، حيث كان العنصرُ الأولُ: الماءَ والترابَ، وَخَلَقَ منه رَجُلاً جميلاً في غايةِ الحسنِ والجمالِ، ثم خَلَقَ من نفسِ الرجلِ امرأةً أُنْثَى. وهذا أحدُ القسمةِ الرباعيةِ، لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ نوعَ الإنسانِ على قسمةٍ رباعيةٍ: قِسْمٌ منه خَلَقَهُ من ذَكَرٍ دونَ أُنْثَى، وَقِسْمٌ منه خَلَقَهُ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ بلاَ أُنْثَى ولا ذَكَرٍ، وقسمٌ منه خَلَقَهُ من أُنْثَى وَذَكَرٍ.
أما الذي خُلِقَ من دونِ الأُنْثَى وَمِنْ دونِ الذكرِ: فهو أَبُونَا آدَمُ؛ لأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ من ترابٍ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ﴾ [آل عمران: آية ٥٩].
والذي خُلِقَ من ذكرٍ دونَ أنثى: هو حواءُ، خلقَها اللَّهُ من آدمَ دونَ أُنْثَى.
والذي خُلِقَ من أُنْثَى دونَ ذَكَرٍ: هو نَبِيُّ اللَّهِ عيسى، أَوْجَدَهُ اللَّهُ من أُمِّهِ مريمَ بلا ذَكَرٍ.
والذي خُلِقَ من ذكرٍ وأنثى: هو سائرُ جنسِ الإنسانِ.
وهذه غرائبُ وعجائبُ تَدُلُّ على كمالِ قدرةِ خالقِ هذا الكونِ، إن شاءَ خَلَقَ دونَ أنثى ودونَ ذَكَرٍ، وإن شاء خلق من ذكرٍ دونَ أُنْثَى، وإن شاءَ خلقَ من أنثى دونَ ذَكَرٍ، وإن شاءَ خلقَ من أنثى وذكرٍ.
ثم إن اللَّهَ أشارَ إلى الطَّوْرِ الثاني من أطوارِ الإنسانِ؛ لأن الطورَ
وقال بعض العلماء (١): إن معنى قوله: ﴿المص (١)﴾ أنه اسم لهذه السورة. وبعضهم يقول (٢): اسم من أسماء الله.
وبعضهم يقول (٣): هو من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وأظهر أقوال العلماء فيها -مع كثرتها وانتشارها أظهرها- قول واحد؛ لأنه دل عليه استقراء القرآن في الجملة، وما دل عليه استقراء القرآن فهو أقرب من غيره. والقول الذي دل عليه استقراء القرآن هو قول بعض العلماء: إن المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور: إظهار إعجاز القرآن، فكأن الله يقول للبشر: ﴿المص (١)﴾ هذه حروف من الحروف المتداولة بين أيديكم تركبون منها كلامكم، فلو كان هذا الكلام من عند غير الله وهو مُؤلَّف من حروفكم المتداولة بين أيديكم لكنتم تقدرون على تأليف مثله، فَلِما عَجَزْتُم عن تأْلِيف مثله وهو من الحروف المعْرُوفة لَدَيْكُمْ مركب منها، عرفنا بذلك أنه تنزيل من حكيم حميد لا مِنَ البَشَرِ.
ووجه الاستقراء الذي دل على هذا القول: أن الله في جميع القرآن في جميع السور المبدوءة بحروف مقطعة لم تُذكر منها سورة واحدة إلا وجاء بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من شأنه، فدل هذا على هذا، ولم يخلُ من هذا في سائر القرآن إلا سورتان: سورة مريم، وسورة القلم، أما غير ذلك فلا تُذكر الحروف المقطعة إلا ذُكر بعدها التنويه بشأن القرآن والرفع من أمرهِ. قال في البقرة: ﴿الم (١)﴾ فأتبعه بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
_________
(١) انظر: ابن جرير (١/ ٢٠٦).
(٢) انظر: المصدر السابق (١/ ٢٠٦)، (١٢/ ٢٩٣).
(٣) انظر: المصدر السابق (١/ ٢٠٩).
﴿وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ لاهون يشتغلون بما لا يجديهم شيئًا، وكل مشتغل بما لا ينفعه يُسمى لاعبًا كما هو معروف. والمعنى: أن الله (جل وعلا) قادر على إهلاكهم في الليل في حالة نومهم، وإهلاكهم في أول النهار في حالة لهوهم ولعبهم، كيف يأمنون مكره مع الكفر به... وتكذيب رسله وقدرته على إهلاكهم؟ وهذا معنى قوله: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)﴾.
ثم كرر الإنكار عليهم فقال: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأعراف: آية ٩٩] كان بعض العلماء يقول: إن المكر من الصفات التي لا تطلق إلا على سبيل المشاكلة. وهذه الآية من سورة الأعراف بيّنت أن المكر يُطلق في غير المشاكلة.
والمشاكلة: هذا اللفظ من اصطلاحات علوم البلاغيين (١)، يذكره علماء البلاغة في (البديع المعنوي) يقولون: منه قسم يُسمى (المشاكلة) وبعضهم يقول: إن ما يُسمى (المشاكلة) هو مما يسمونه: بعض علاقات المجاز المرسل.
وهذا الذي يقولون له (المشاكلة) هو: أن يأتي لفظ موضوع في معنى غير معناه، بل موضوع في معنى أجنبي من معناه الأصلي، إلا أنه وُضع فيه لأجل المشاكلة والمقارنة بينه وبين لفظ آخر مذكور معه، ومن أمثلته عندهم قول الشاعر (٢):

قالوا اقترح شيئًا نُجِد لك طبخَه قلتُ اطبخوا لي جُبَّةً وقميصَا
_________
(١) انظر: التلخيص للقزويني ص٣٥٦، جواهر البلاغة ص٢٩٩.
(٢) البيت في المصدرين السابقين.
وتمردوا عليه أهلكهم، كما نطقت به الآيات القرآنية بكثرة، وهذا معنى قوله: ﴿وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ﴾.
وقال بعض العلماء: المراد بالعَوْد هنا: الاستمرار، أي: وإن يستمروا على ما هم عليه من الكفر فقد مضت سنة الأولين. وربما أطلقت العرب ابتداء الفعل على دوامه، مثل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: الآية ١]، أي: اسْتَمِرّ ودُم على تقواه. هذان الوجهان في قوله: ﴿وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٣٨].
وأمر الله النبي ﷺ وأصحابه قال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: الآية ٣٩] (لا تكون) مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة بعد (حتى)، و (لا) النافية لا تمنع من ذلك النصب ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ قال أكثر العلماء (١): المراد بالفتنة هنا: الشرك؛ أي: حتى لا يَبْقَى شِرْكٌ على وَجْهِ الأرض، ويدل لهذا المعنى قوله بعده -يليه-: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ لأن الدين لا يكون كله لله إلا إذا لم يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ شِرْكٌ، فعندئذٍ يكون الدين كله لله. ويؤيد هذا المعنى وهذا التفسير الذي دلت عليه القرينة القرآنية قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا منعُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (٢) هذا هو الأظهر. وجاء في صحيح البخاري في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ما يدل على أن المراد بالفتنة: فتنة الرجل عن دينه، كالمستضعف الذي إذا آمن حَبَسُوه وأوثقوه، أو قتلوه حتى يترك
_________
(١) انظر ابن جرير (١٣/ ٥٣٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon