صَادِقِينَ} [يوسف: آية ١٧] أي: بِمُصَدِّقِنَا، وقوله: ﴿يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: آية ٦١] أي: يُصَدِّقُ المؤمنين، فالمعنَى على هذا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ لكَ أي: لن نُصَدِّقَكَ فيما ذَكَرْتَ مِنْ أن اللَّهَ كَلَّمَكَ وَأَمَرَكَ وَنَهَاكَ. وهذا - نَفْيُهُمْ للتصديقِ - غَيَّوْهُ بغايةٍ يتمادى إليها هي: ﴿حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ أي: إلى رؤيتنا اللَّهَ جهرةً.
وقوله: ﴿جَهْرَةً﴾ فيه وجهانِ من التفسيرِ (١)، أحدهما: أنه متعلقٌ بـ ﴿نَرَى﴾ والمعنى: ﴿نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً﴾ أي: عِيَانًا، وانتصابُه على أنه مصدرٌ مُؤَكِّدٌ لعامله مزيلٌ توهمَ أنها رؤيةُ منامٍ، أو رؤيةُ عِلْمٍ بالقلبِ، وقال بعضُ العلماءِ: هو يتعلقُ بقولِه: ﴿قُلْتُمْ﴾ أي: قلتُم جِهَارًا - من غيرِ مُوَارَبَةٍ - هذا القولُ العظيمُ الشنيعُ، وعلى هذا فأظهرُ القولين فيها أنه مصدرٌ مُنَكَّرٌ حال، أي قلتُم هذا القولَ جهرةً أي: في حالِ كونِكم جاهرين بهذا الأمرِ العظيمِ.
وقوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ﴾ الفاءُ سببيةٌ دَلَّتْ على أن أخذَ الصاعقةِ إياهم سببُه هذا الاجتراءُ العظيمُ، وامتناعُهم من تصديقِهم نَبِيَّهُمْ حتى يروا اللَّهَ عِيَانًا، كما قال جل وعلا: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً﴾ [النساء: آية ١٥٣].
والصاعقةُ تُطْلَقُ إطلاقاتٍ (٢): تُطْلَقُ على النارِ الْمُحْرِقَةِ، وعلى الصوتِ المزعجِ الْمُهْلِكِ، وأكثرُ إطلاقاتِها عليهما معًا، صوتٌ مزعجٌ مشتملٌ على نارٍ مهلكةٍ، وعلى كُلِّ حالٍ فعلى أنهم السبعون المذكورون في الأعرافِ فقد بَيَّنَ أن هذه الصاعقةَ رَجْفَةٌ، كما في
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٤)، الدر المصون (١/ ٣٦٧).
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ٨٣)، المفردات (مادة: صعق) ص٤٨٥، القرطبي (١/ ٢١٩).
كُتُبِهِ في الأصولِ قال: «طالعتُ كتابَ اللَّهِ (جل وعلا) من أولِه إلى آخرِه هَلْ نجدُ فيه آيةً يُفْهَمُ منها أن التركَ فِعْلٌ؟ وقال: مَا وجدتُ آيةً يُفهم منها ذلك إلا آيةً من سورةِ الفرقانِ، وهي قولُه تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (٣٠)﴾ [الفرقان: آية ٣٠] لأَنَّ الاتخاذَ معناه: التناولُ. أي: أَخَذُوهُ في حالِ كونِه مَهْجُورًا. قال: يُؤْخَذُ من هذا: أن التركَ فِعْلٌ»، ونحن نقولُ: إنَّا طَالَعْنَا في كتابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَا في كتابِ اللَّهِ آياتٍ صريحةً - وإن لم يَطَّلِعْ عليها ابنُ السبكي، هي صريحةٌ - في أن التركَ فِعْلٌ، وقد نَصَّ اللَّهُ على ذلك مَرَّتَيْنِ في سورةِ المائدةِ وحدَها، كما بَيَّنَّاهُ في هذه الدروسِ، أحدُ الموضعين من سورةِ المائدةِ الذي دَلَّ القرآنُ الصريحُ فيه على أن التركَ فعلٌ من الأفعالِ، وَعَمَلٌ من الأعمالِ، وَصُنْعٌ من الصنائعِ: هو قولُه تعالى: ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ﴾ ثم قال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)﴾ [المائدة: آية ٦٣] فَسَمَّى عدمَ أمرِهم بالمعروفِ ونهيِهم عن المنكرِ سَمَّاهُ (صُنْعًا). والصُّنْعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ؛ لأنه لا يُطْلَقُ الصُّنعُ إلا على الفعلِ الذي يَتَكَرَّرُ من صانعِه مِرَارًا.
الموضعُ الثاني من الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَ اللَّهُ فيهما أن التركَ فعلٌ: هو قولُه في المائدةِ أيضًا: ﴿كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾ [المائدة: آية ٧٩] فهذا الذي كانوا يفعلونَه، الذي قال اللَّهُ فيه: «بِئْسَ» هو عدمُ تَنَاهِيهِمْ فيما بينَهم عن المنكرِ، فهو صريحٌ في أن عدمَ النهيِ عن المنكرِ فعلٌ مذمومٌ، فهاتانِ الآيتانِ صريحتانِ في أن التركَ فِعْلٌ، وهو كذلك في لغةِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ لَمَّا كانَ الصحابةُ يَبْنُونَ هذا المسجدَ
العَدَمِ فهو استعمال صحيح في لغة العرب مَعْرُوف لا شَكَّ فِيهِ بين العلماء، وقد ذكرنا في الدروس السابقة له أمثلة كثيرة، كقول غيلان ذي الرمة (١):

أُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ قَلِيلٍ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلا بُغامُها
لأن مراده بالقلة: العدم المحض. يعني: لا صوت بتلك الفلاة ألبتة إلا بُغام ناقته. ومنه بهذا المعنى قول الطِّرِمَّاح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب (٢):
أَشَمٌّ نَدِيٌّ كَثِيرُ النَّوَادِي قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَهْ
يعني: لا مَثْلَبَةَ فِيهِ ولا قَادِحَةَ، وتقول العرب: مَرَرْتُ بأرض قليل فيها البَصَل والكُرَّاثُ. يعنون: لا بَصَلَ ولا كُرَّاثَ فِيهَا ألْبَتَّةَ، ومنه قول الشاعر -وهو شاهد على أن (ما) تأتي موضع (لا) التي لنفي الجنس- في قوله (٣):
فَمَا بَأْسَ لَوْ رَدَّتْ عَلَيْنَا تَحِيَّةً قَلِيلاً لَدَى مَنْ يَعْرِفُ الحَقَّ عَابُهَا
ولكن هذا الإطلاق وإن كان صحيحاً في لغة العرب فظاهر القرآن يخالفه ويدل على أنه لا يخلو إنسان من شكر في الجملة، إلا أن الشكر القليل مع الكفر الكثير لا ينفع، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (١٠٦)﴾ [يوسف: آية ١٠٦] وهذا معنى قوله: ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٠].
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣) من هذه السورة.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣) من هذه السورة.
نواهيه. وقد قدمنا مرارًا في هذه الدروس (١) أن المتقي اسم فاعل الاتقاء، وأن (الاتقاء) في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه: اتخاذ الوقاية. تقول مثلاً: اتقيت الرمضاء بنعلي، والسيوف بمِجَنِّي. وكل شيء جعلت بينه وبينك وقاية فقد اتقيته، ومنه قول نابغة ذبيان (٢):
سَقَطَ النَّصِيْفُ ولم تُرِدْ إسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ واتْقَتْنَا بِالْيَدِ
أي: جعلت يدها وقاية بيننا وبين وجهها لئلا نراه.
وأصل مادة التقوى من (وقي) ففاؤها واو، وعينها قاف، ولامها ياء (٣). فهي مما يسميه الصرفيون: لفيفًا مفروقًا (٤)، هذا أصلها.
والاتقاء: اتخاذ الوقاية، والاتقاء في الشرع: هو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذه الوقاية التي تقي الإنسان سخط ربه وعذابه هي امتثال أمره واجتناب نهيه (جل وعلا). فالاتقاء: امتثال الأمر واجتناب النهي، وهو اتخاذ الوقاية التي تقي سخط الله وعذابه، وهذا معنى قوله: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٢٨].
لما هدَّأ موسى قومه، وأمرهم بالصبر، وأشار لهم إلى وعد الله، وأن العاقبة لمن اتقى الله وهم المؤمنون لا الكافرون قال له قومه: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا﴾ [الأعراف: آية ١٢٩] حُذف الفاعل هنا وهو معروف، أي: آذانا فرعون وقومه من قبل أن تأتينا من مدين
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٢) مضى عد تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
(٤) لأن حروف العلة غير متوالية فيه، بخلاف اللفيف المقرون.
وقد يتبرأ منهم -لعنهم الله- كما سيأتي في خطبة الشيطان خطبته الفصيحة العظيمة الصادقة التي يخطبها في أوليائه يوم القيامة، التي نص الله عليها في سورة إبراهيم الخليل؛ لأنه إذا اجتمعت الخلائق ورأى الكفار ﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً﴾ [الكهف: الآية ٥٣] جاءوا لإبْلِيس اللعين وقالوا: أنت كنت سيدنا وكنا نطيعك، فإن كان عندك شيء اليوم فأت به. قال بعض العلماء: ينصب له منبر من نار (١) -والله أعلم- بمثل هذا.
ونصب المنبر له من النار شبه إسرائيليات، والخطبة صحيحة ذكرها الله في سورة إبراهيم الخليل، وهو قوله لهم: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾ [إبراهيم: الآية ٢٢] وهو صادق في كلامه هذا، وقد يصدق الكذوب، فعند ذلك يمقتون أنفسهم حيث اتبعوا هذا الخائن الغدار الغَرَّار، وعندما يمقتون أنفسهم في ذلك الوقت قال بعض العلماء: ينادون: ﴿لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ﴾ [غافر: الآية ١٠] ولذا قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ﴾ [الأنفال: الآية ٤٨] تراءت: (تَفَاعَلَتْ) من (رأى) البصرية. أي: كان كل من الفئتين يرى الأخرى ببصره رأي العين كما تقدم في قوله: ﴿يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ﴾ [آل عمران: الآية ٣٣] ﴿تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ﴾ أي: فئة المسلمين وفئة الكفار، صار هؤلاء يرون هؤلاء عياناً بأعينهم، وهؤلاء كذلك. قال بعض العلماء: ونزل
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٦/ ٥٦٣).


الصفحة التالية
Icon