قوله: ﴿وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا﴾ [الأعراف: آية ١٥٥]. على كُلِّ حالٍ فهذه الصاعقةُ سواء قلنا: إنها نارٌ مُحْرِقَةٌ، أو صوتٌ مزعجٌ أَهْلَكَهُمْ، أو هما معًا صوتٌ مزعجٌ أَرْجَفَ بهم الأرضَ، فالتحقيقُ أنهم مَاتُوا، وأنه صَعْقُ موتٍ، كما صرَّحَ اللَّهُ بذلكَ في قولِه: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ [البقرة: آية ٥٦] أنهم ماتوا، أَمَاتَهُمُ اللَّهُ عقابًا لمقالتِهم هذه الشنعاءِ، ثم أحياهم بدعاءِ نَبِيِّهِمْ - ﷺ - وعلى نبينا، خلافًا لِمَنْ زعم أن صَعْقَهُمْ هذا صَعْقُ غشيةٍ قائلاً: إن الصعقَ قد يُطْلَقُ على [غيرِ] (١) الموتِ، وذكروا منه قولَ جريرٍ يهجو الفرزدقَ (٢):

وهَلْ كَانَ الْفَرَزْدَقُ غَيْرَ قِرْدٍ أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ فَاسْتَدَارَا
فقوله: «أَصَابَتْهُ الصَّوَاعِقُ» ليس معناه أنه ماتَ. والتحقيقُ أنه صعقُ موتٍ، لأنه لا أحدَ أصدقُ من اللَّهِ، وَاللَّهُ صَرَّحَ بأنه موتٌ في قولِه: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾ البعثُ بعد الموتِ معناه الإحياءُ بعدَ الموتِ، أي:
بعدَ أن مُتُّمْ. أحياهم اللَّهُ جل وعلا أحياءً.
وعامةُ المفسرين يقولون: إِنَّ الزمنَ الذي مَكَثُوا في هذا الموتِ أو الغشيةِ - على القولِ الباطلِ عند مَنْ يزعمُ أنه صَعْقُ غشيةٍ لا صَعْقَ موتٍ، مدةُ هذا الصعقِ الَّذِي عَلَيْهِ التحقيقُ أنه موتُ - يومٍ وليلةٍ، كما عليه عامةُ الْمُفَسِّرِينَ (٣) إلا مَنْ شَذَّ.
_________
(١) زيادة يقتضيها السياق.
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ٨٣).
(٣) انظر: البحر المحيط (١/ ٢١١)، ونقل عليه الإجماع.
الكريمَ، عندما جاءَ النبيُّ - ﷺ - وَبَنَى هذا المسجدَ، كان بعضُ الصحابةِ جَالِسًا، والنبيُّ يعملُ معَهم في المسجدِ، فقال ذلك (١):
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا العَمَلُ الْمُضَلَّلُ
فَسَمَّى قعودَهم وتركَهم العملَ سَمَّاهُ: عَمَلاً مُضَلَّلاً. ومن الأحاديثِ الدالةِ على ذلك قولُ النبيِّ - ﷺ -: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ» (٢)
فسمَّى تركَ الأذيةِ (إسلامًا)، وذلك يدلُّ على أن تركَ الأذيةِ فِعْلٌ؛ لأن الإسلامَ أَعْمَالٌ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة الأنعام.
(٢) وردت هذه الجملة في عدة أحاديث رواها عدد من الصحابة (رضي الله عنهم) وهم كالآتي:
الأول: حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، حديث رقم (٢٦٢٧)، (٥/ ١٧)، والنسائي في الإيمان، باب: صفة المؤمن. حديث رقم (٤٩٩٥)، (٨/ ١٠٤ - ١٠٥).
الثاني: حديث أنس (رضي الله عنه) عند ابن حبان (الإحسان١/ ٣٦٤).
الثالث: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، عند البخاري في الإيمان، باب: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. حديث رقم (١٠)، (١/ ٥٣)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (٤٠)، (١/ ٦٥).
الرابع: حديث جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) عند مسلم في الإيمان، باب: بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (٤١)، (١/ ٦٥).
الخامس: حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) عند البخاري في الإيمان، باب: أي الإسلام أفضل، حديث رقم (١١)، (١/ ٥٤)، ومسلم في الإيمان، باب بيان تفاضل الإسلام. حديث رقم (٤٢)، (١/ ٦٦).
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (١١)﴾ [الأعراف: آية ١١].
في هذه الآية الكريمة إشكال معروف؛ لأن الله قال بصيغة الجمع: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ وهذا يتبادر منه أن المخاطبين في قوله: ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ ذرية آدم، إلا أنه رتّب عليه قوله: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ و (ثم) تقتضي الترتيب والمهلة، فيكون الله بعد أن خلق ذرية آدم وصورها قال للملائكة: اسجدوا لآدم، وهذا خلاف الواقع؛ لأنه أمرهم بالسجود له عندما نفخ فيه الروح قبل أن يولد له شيء، كما دلّ عليه قوله في سورة الحجر: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩)﴾ [الحجر: الآيتان ٢٨، ٢٩] وقوله في سورة ص: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢)﴾ [ص: الآيتان ٧١، ٧٢] فيخطر في ذهن طالب العلم إشكال، وهو الترتيب بـ (ثم) فيقول: كيف يقول: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ﴾ [الأعراف: آية ١١] بعد تصوير ذرية آدم، وخلقها؟! وهذا خلاف الواقع، فهذا إشكال معروف في الآية، مشهور عند علماء التفسير، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة (١):
أحدها: وهو الذي اختاره كبير المفسرين -محمد بن جرير الطبري وغيره- أن المراد بالجمع في ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾ و ﴿صَوَّرْنَاكُمْ﴾ آدم وحده، وإنما أُطلق عليه صورة الجمع لأنه لما كان أبا البشر
_________
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٣١٧ - ٣٢٣)، البغوي (٢/ ١٥٠)، القرطبي (٧/ ١٦٨ - ١٦٩)، ابن كثير (٢/ ٢٠٢)، الدر المصون (٥/ ٢٦٠).
بعد أن صرت نبيًّا، وذلك الإيذاء هو ذبح أولادنا، واستحياء نسائنا، وإهانتنا بالأعمال الشاقة. وقعت لنا منه هذه الإهانات وأنت هنالك في مدين قبل أن تأتينا ووقع لنا ذلك بعد ما جئتنا، فتراه الآن يقول: إنه يذبح أبناءنا!! فقد حصل لنا الأذى في كل الأوقات قبل مجيئك وبعده. وهذا معنى قولهم: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ فَهَدَّأَهم نبي الله موسى، وأشار لهم إشارة أكبر من الأول إلى الوعد بنصر الله لعباده المؤمنين، وإهلاك الكفرة الظالمين، قال: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ﴾ (عسى) فعل تَرَجٍّ يدل على رجاء اتصاف المبتدأ بالخبر، وخبره غالبًا إنما يكون فعلاً مضارعًا مقرونًا بـ (أن) وربما جُرِّد من (أن) كما هو معروف في محله. أي: فأرجو لكم رجاء قويًّا من عند خالقكم (جل وعلا)، أي: من خالقكم ومدبر شؤونكم عسى أن يهلك عدوكم فرعون وقومه بأمر من عنده ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي: يجعلكم خلفاء في الأرض من بعدهم ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ فذلك يدل على أن المستخلفين في الأرض لم يُستخلفوا فيها لأجل الإنعام بها عليهم، بل كل ذلك للابتلاء والامتحان، فيطيعون الله فيما استخلفهم فيه أو يعصونه.
وهذه الآية الكريمة فيها وعيد شديد، وتخويف عظيم، لمن استخلفه الله في الأرض بعد عدوِّه الذي كان يقاومه وبسط يده بالأرض، فإذا كان عنده عقل فإنه يخاف من نظر الله إليه كيف يفعل، فيطيع الله في كل ما يفعل كما لا يخفى. فهذه من أعظم المواعظ وأكبرها التي يعظ الله بها الذين يُستخلفون في الأرض بعد الذي كانوا فيها. وهذا معنى قوله: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ
الملائكة لنصر المسلمين، ورأى إبليس الملائكة، ويدل على هذا قوله: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ يشير إلى الملائكة؛ لأن الكفار لم يروها وهو قد رآها، وهذا معنى قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾ قال بعض العلماء: هو الملائكة. وعَبَّرَ عَنْه بـ (ما) لأنه أبهمه عليهم ولم يبين لهم أنه من العالِم ولا العاقل. وهذا معنى قوله: ﴿إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾.
﴿إِنِّيَ أَخَافُ اللَّهَ﴾ أن ينزل بي عقابه ونكاله، فالله (جل وعلا) شديد العقاب. وقد قَدَّمْنَا في هذه الدروس مِراراً (١) أن الخوف في لغة العرب: هو الغَمّ مِنْ أمْرٍ مستقبل. والحزن في لغة العرب: الغم بسبب أمر فائت -أعاذنا الله منهما- ورُبَّمَا وضعت العرب الخوف مكان [الحزن، والحزن] (٢) مكان الخوف. وقوله: ﴿أَخَافُ﴾ الألف بعد الخاء مبدلة من واو، وأصل مادته (فَعِل) بالكسر، أصل ماضيه: (خَوِفَ) بكسر الواو (يَخْوَفُ) بفتحها، فوقع فيه الإعلال المعروف المشهور في التصريف (٣).
﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾ يعني: أتَرَقَّبُ الغَمَّ من سبب ما يصلني منه في المستقبل. ﴿وَاللَّهُ﴾ جل وعلا ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ إذا عاقب فعقابه شديد.
والعقاب: هو التنكيل بسبب الذَّنْبِ. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عِقَاباً؛ لأنه يأتي عقبه من أجله. وقد قدمنا أنه (جل وعلا) هو وَحْدَهُ شَدِيدُ العِقَابِ؛ لأنه لا شدة عقاب يملكها غير الله (جل وعلا)؛ لأن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.
(٢) في الأصل: «الغم، والغم»، وهو سبق لسان.
(٣) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٣٦٦.


الصفحة التالية
Icon