وقوله: ﴿وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ جملةٌ حاليةٌ، وأصلُ هذه الجملةِ فيها إشكالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: كيف ينظرونَ، وينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ مع إصابةِ الصاعقةِ إياهم؟
وللعلماءِ عن هذا أجوبةٌ (١): أظهرُها أن الصاعقةَ أَصَابَتْهُمْ غيرَ دُفْعَةٍ، بل تصيبُ البعضَ والبعضُ ينظرُ إلى إهلاكِه؛ لأن ظاهرَ القرآنِ يَجِبُ الحملُ عليه إلا بدليلٍ جازمٍ من كتابٍ وَسُنَّةٍ (٢)، وظاهرُ القرآنِ أن هنالك نَظَرًا لوقوعِ هذه الصاعقةِ، أن الصاعقةَ وَقَعَتْ في حالِ نَظَرِهِمْ، وبهذا قال بعضُ العلماءِ، وهو الأظهرُ؛ لأنه يتمشى مع ظاهرِ القرآنِ، ولا مانعَ من أن تصيبَ الصاعقةُ بعضَهم والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه، ثم تصيبُ بعضًا والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه، وكذلك قال بعضُ العلماءِ (٣): إن اللَّهَ أحياهم مُتَفَرِّقِينَ في غيرِ دفعةٍ واحدةٍ، يحيا بعضَهم، والبعضُ الآخَرُ ينظرُ إليه كيف يُحْيِيهِ اللَّهُ. وهذا معنى قوله: ﴿فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ﴾.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ قَدْ قَدَّمْنَا معنى (لَعَلَّ) ومعنى (الشُّكْرِ) (٤).
وهذه الآيةُ الكريمةُ فيها دليلٌ جازمٌ على البعثِ؛ لأن بني إسرائيلَ هؤلاء، هذه الطائفةُ منهم التي أَمَاتَهَا اللَّهُ فأحياها دليلٌ قاطعٌ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٤)، البحر المحيط (٢/ ٢١٢).
(٢) في هذه القاعدة انظر: ابن جرير (١/ ٣٨٨، ٤٧١، ٤٨٥، ٥٥٠)، (٢/ ١٥، ٦١، ١٨٠، ٤٥٦، ٤٥٧، ٥٤٥، ٥٦٠) الصواعق المرسلة (١/ ٢٠٤)، قواعد التفسير (٢/ ٨٤٣ - ٨٥٠).
(٣) انظر: البحر المحيط (١/ ٢١٢).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من هذه السورة.
هذه الأشياءُ الأربعةُ هي أنواعُ العملِ، وهي: القولُ والفعلُ والعزمُ المُصَمِّمُ والتركُ، وجميعُها يدخلُ في قولِه: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ﴾.
﴿مَّرْجِعُهُمْ﴾ هنا: مصدرٌ مِيمِيٌّ، ومعناه: رجوعُهم. والمقررُ في فَنِّ التصريفِ: أن المصدرَ الميميَّ أصلُه (مفْعَل) بفتحِ العينِ، إلا إذا كان من مِثَالٍ. أعني: واويَّ الفاءِ، غيرَ مُعْتَلِّ اللامِ، فالقياسُ أن يقالَ في (المَرْجِعِ) - بمعنَى الرجوعِ - أن يقالَ فيه: (مَرْجَع) لأَنَّ المصدرَ الميميَّ في مثلِ هذا قياسُه: (مَفْعَل) بِفَتْحِ العينِ، إلا إنه كُسِرَ المرجعُ هنا وقيل فيه: (مَفْعِل) سَمَاعًا لا قِيَاسًا، فهو سماعٌ يُحْفَظُ ولاَ يُقَاسُ عليه (١)، وهو مصدرٌ ميميٌّ بمعنَى (الرجوعِ).
وَقَدَّمَ الجارَّ والمجرورَ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميُّ إِيذَانًا بالحصرِ: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ﴾ لأنه قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعنِي مفهومَ المخالفةِ - أن مِنْ صِيَغِ الحصرِ: تقديمَ المعمولِ على عَامِلِهِ (٢)؛ فَقَدَّمَ المعمولَ الذي هو الجارُّ والمجرورُ على عاملِه الذي هو المصدرُ الميميّ إيذانًا بالحصرِ.
والمعنَى: رجوعُهم يومَ القيامةِ إلى اللَّهِ وحدَه، فليس هنالكَ معه مَلِكٌ آخَرُ يَرْجِعُ إليه بعضُهم، بل يرجعونَ إليه وحدَه (جل وعلا).
وقولُه: ﴿فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)﴾ ﴿يُنَبِّئُهُم﴾ مضارعُ
_________
(١) انظر: ضياء السالك (٣/ ٤٦).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
ووجوده أصلٌ في وجوده كان خلقه وتصويره كأنه خلق وتصوير للجميع. ونحو هذا الأسلوب معروف في القرآن؛ لأن الله يخاطب اليهود في زمن النبي ﷺ ويقول: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ [البقرة: آية ٥٧] والذين ظُلل عليهم الغمام وأُنزل عليهم المن والسلوى أجداد أجداد أجدادهم، قبلهم بعشرات القرون، فَدَلَّ على أن أصْلَ الإنسان الذي هو منه قَدْ يُخَاطَب الإنسان والمراد به ذلك الأصل، وهذا كثير في القرآن، كقوله: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ﴾ [البقرة: آية ٦١] ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ﴾ [البقرة: آية ٥٥] المخاطب به الموجودون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والقائلون أجدادهم الموجودون قبلهم بقرون.
وعلى هذا فلا إشكال في قوله: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: آية ١١] لأن (ثم) على بابها من الترتيب والمهلة، غاية ما في الباب أنه أطلق الأصل وأراد شموله لفروعه، ونظائره في القرآن كثيرة كما مثلنا.
القول الثاني: هو ما قاله بعض العلماء: معنى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ﴾ أيها الخلق في أصلاب آبائكم، ﴿ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ هذه الصور العظيمة في بطون أمهاتكم. وهذا من غرائب صنعه وعجائبه؛ لأن تصويره لنا في بطون أمهاتنا فيه من غرائب صنعه ما يبهر العقول، والله في كتابه يُعجّب خلقه كيف ينصرفون عن تصويره لهم في الأرحام، أولاً قال في ذلك: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)﴾ [آل عمران: آية ٦] ثم بيّن تصويره لنا في الأرحام بحالة تبهر العقول، ثم عجّب خلقه كيف ينصرفون عن التدبر في هذا!! لأنكم كلكم أيها الحاضرون تعلمون أنه ليس واحد
تَعْمَلُونَ} [الأعراف: آية ١٢٩].
﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥)﴾ [الأعراف: الآيات ١٣٠ - ١٣٥].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٣٠، ١٣١].
اللام في قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا﴾ موطئة للقسم، وصيغة الجمع للتعظيم، والمراد بـ (آل فرعون): فرعون وقومه (١)، والمعنى: أن السحرة لما غُلبوا، وأظهر الله معجزة نبيه، وعرف فرعون وقومه أنه الحق، كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: آية ١٤] امتحنهم الله بآيات فيها بعض العذاب، أخذهم أولاً بالسنين ونقص من الثمرات، كما قال هنا: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا﴾ والله لقد أخذنا ﴿آلَ فِرْعَونَ﴾ أي: فرعون وقومه.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
أكبر طاغية من جبابرة أهل الأرض لا يقدر على شيء من العذاب إلا قَدْرَ ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا عذب المجرم بقدر ما يستوجب الموت مات. والله وحده يعذب المجرمين بالآلاف والملايين مما يستوجب الموت ومع ذلك لا يموتون ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: الآية ١٧] ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ [النساء: الآية ٥٦] فهذا هو العذاب الشديد والنكال العظيم الذي يجب الحذر منه والخوف منه ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾ [الفجر: الآيتان ٢٥، ٢٦].
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (٥٤)﴾ [الأنفال: الآيات ٤٩ - ٥٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)﴾ [الأنفال: الآية ٤٩].
قوله: «إذا» ظرف بدل من «إذ» قبله، أو منصوب بـ (اذكر) مقدراً. اذكر إذ يقول المنافقون.