على أن اللَّهَ (جل وعلا) قادرٌ على إحياءِ الموتى. وقد ذَكَرَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ خمسةَ أمثلةٍ من إحيائِه للموتى في دارِ الدنيا (١) هذا أَوَّلُهَا.
الموضعُ الثاني: قولُه في قتيلِ بني إسرائيلَ: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ [البقرة: آية ٧٣] وقولُه: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ بَيَّنَ به أن إحياءَه قتيلَ بني إسرائيلَ في دارِ الدنيا دليلٌ على البعثِ وإحيائِه الموتى، وبعثه إياهم بعدَ أن صَارُوا عِظَامًا.
الْمَوْضِعُ الثالثُ: قوله جل وعلا: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٤٣].
الموضعُ الرابعُ: قوله في عُزَيْرٍ وَحِمَارِهِ: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾ [البقرة: آية ٢٥٩]. وفي القراءةِ الأُخْرَى (٢) ﴿كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
الموضعُ الخامسُ: طيورُ إبراهيمَ المذكورُ في قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
_________
(١) انظر: ابن كثير (١/ ١١٢).
(٢) المبسوط لابن مهران ص١٥١.
(فعَّل، ويُفَعِّل) من النبأِ، والنبأُ في لغةِ العربِ: أَخَصُّ من الخبرِ؛ لأَنَّ النبأَ لاَ يُطْلَقُ إلا على الإخبارِ بشيءٍ له شأنٌ وَخَطْبٌ، تقول: جَاءَنَا نبأُ الأميرِ، ونُبِّئْنَا بخبرِ الأميرِ والجيشِ، ولا تقولُ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ؛ لأنَّ هذا لا أهميةَ فيه، فتقولُ فيه: (خبرٌ) ولا تقول: (نَبَأٌ) (١).
فمعنَى ﴿يُنَبِّئُهُم﴾ أي: يُخْبِرُهُمْ خَبَرًا عَظِيمًا عندَهم لَهُ خَطْبٌ وشأنٌ عظيمٌ.
﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)﴾ (ما) موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، والمعنَى: بالذي كانوا يعملونَه في دارِ الدنيا. وليس المرادُ بهذه التنبئةِ والإخبارِ مجردَ التنبئةِ فقط، لا وَكَلاَّ، بل المرادُ به: الجزاءُ؛ لأَنَّ كُلَّ إنسانٍ يومَ القيامةِ يُخْبِرُ بجميعِ ما عَمِلَ من جهاتٍ متعددةٍ:
أولاً: تشهدُ على الكافرِ جوارحُه، تشهدُ عليه يدُه ورجلُه وجلدُه، كما يأتي في قولِه: ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ﴾ [يس: آية ٦٥] وكقولِه: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ﴾ [فصلت: آية ٢٢] وكقولِه: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: آية ٢١] وَيُنَبِّئُهُ ويشهدُ عليه المكانُ؛ لأن البقعةَ من الأرضِ الذي عَمِلَ الإنسانُ عليها المعصيةَ تأتي يومَ القيامةِ وتشهدُ عليه عندَ رَبِّهَا، وتقولُ البقعةُ: إن فلانَ بنَ فلانٍ فَعَلَ عَلَيَّ كذا وكذا في ساعةِ كذا، في يومِ كذا، في شهرِ كذا، في سنةِ كذا، كما يَأْتِي في قولِه: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (٢) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
منكم يدخل بطن أمه في أول دخوله له وفيه يد ولا رجل ولا عين ولا أنف ولا فم، بل يدخلها نطفة من ماء مهين مستوية الأجزاء، ليست مفصلة ولا مُخَلَّقَة، ثم إِنَّ رَبَّ العالمين بقدرته العظيمة ينقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، ينقله من النطفة إلى علقة -وهي الدم الجامد الذي إذا صُبَّ عليه الماء الحار لم يذب- ثُمَّ يَنْقِل العَلَقَة مُضْغَة، ويُصيّر المضغة عظاماً، فيركِّب هذه العظام بعضها في بعض هذا التركيب الدقيق المحكم الهائل، لو نظرت تركيب الأنملة بالأنملة، وفقرة الظهر بفقرة الظهر، والمفصل بالمفصل، وتركيب عظام الرأس بعضها إلى بعض، وخياطة بعضها مع بعض على ذلك الوجه العظيم الهائل، ونظرت في الإنسان - لأن الإنسان إذا نظر في موضع رأس إبرة من جسده وجد من عجائب صنع الله وغرائبه ما يبهر العقول- بعد أن دخل بطن أمه نطفة من مَنيّ فإذا هو مصور هذا التصوير العظيم، مخلوق منه هذا الهيكل العظيم، العظام شُدّ بعضها ببعض على أحْكَمِ وَجْهٍ وأَتْقَنِهِ وأَبْدَعِهِ، ومنه قوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨)﴾ [الإنسان: آية ٢٨] الأسر: أصله شدّ الشيء بالإسار، والإسار في لغة العرب (١):
القِدّ، وهو الجلد الذي لم يُدبغ؛ لأن الجلد الذي لم يُدبغ إذا أخذت سيوره وشددت بها شيئاً وهي مبلولة يبست فاستحكم الشدّ غاية الاستحكام ﴿وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ المعنى: شددنا بعض عظامهم إلى بعض كما يُشد الشيء إلى الشيء بالإسار، وهو الجلد غير المدبوغ، ومنه قيل للأسير: (أسير) لأنه يُشَدُّ بالإسار غالباً، فلو كان الذي شدّ يدك بمعصمك، ومعصمك بمرفقك، ومرفقك بمنكبك، لو كان غير
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: أسر) ص٧٦، القاموس (مادة: الأسر) ص٤٣٧..
﴿بِالسِّنِينَ﴾ والمراد بالسنين: الجدب والقحط حتى تقل بسببه الأرزاق، يعني: هذا البلاء بالسنين، العرب تقول: هذه سنة، وهذه سنون -يعنون أنها عام أو أعوام- جُدب، يقلّ فيها المطر، ويكثر فيها الجدب، ويقل فيها الأرزاق. وهذا معروف في كلام العرب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» (١) حتى إن العرب ليقولون: أسنت القوم. أي: أصابتهم السنة الشهباء المجحفة، التي فيها جدب وعدم المطر. ومنه قول ابن الزبعرى السهمي (٢):

عَمْرُو العُلا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرَجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجَافُ
(مسنتون): أصابتهم السنة بالقحط وعدم المطر حتى جاعوا، وهذا معنى قوله: ﴿بِالسِّنِينَ﴾.
﴿وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ﴾ أي: وأخذناهم بنقص من الثمرات بحيث لا تثمر أشجارهم. قال بعضهم: كانت النخلة قد تكون فيها تمرة واحدة. قال بعض العلماء: السنين: هي الجدب بباديتهم، ونقص الثمرات: قلة الزروع والثمرات لأمصارهم (٣).
وعلى كل حال فالمراد أن الله يُقل عليهم المطر حتى تقل أرزاقهمِ من زروع وثمار وغيرها، وهذا معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠)﴾ [الأعراف: آية ١٣٠] أي: يتعظون.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأنعام.
(٢) البيت في القرطبي (٧/ ٢٦٤)، الدر المصون (٥/ ٤٢٧).
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٤٦).
المنافقون: جمع التصحيح للمنافق، وهو المتصف بالنفاق، والنفاق: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. والمنافق هو المعروف في اصطلاح الفقهاء بالزنديق، فالمنافقون الذين يلقون المسلمين ويقولون: إنهم مؤمنون. وهم في باطن الأمر بخلاف ذلك.
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ اختلف العلماء في المراد بالذين في قلوبهم مرض على أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً (١).
قال بعض العلماء: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ هم نفس المنافقين، وإنما كان العطف نظراً إلى مغايرة الصفات، كأنه يقول: الجامعون بين النفاق ومرض القلوب قالوا كذا وكذا، ومعلوم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن عطف الشيء على نفسه مذكوراً بصفات مختلفة نظراً إلى أن تغاير الصفات كتغاير الذوات أسلوب عربي معروف في كلام العرب، وهو موجود بكثرة فِي القرآن (٢)، كقوِله في أول سورة البقرة: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين (٣) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ ثم قال: ﴿والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: الآيات ٢ - ٤] والمعطوفون هم الأولون، إلا أن الصفات اختلفت فجاء العطف نظراً لتغاير الصفات. ونظيره في القرآن أيضاً قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ [الأعلى: الآيات ١ - ٤] فالمتعاطفات شيء واحد عُطف بعضها على بعض نظراً لتغاير
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٢) القرطبي (٨/ ٢٧) ابن كثير (٢/ ٣١٨).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon