قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة ة آية ٢٦٠] (١).
_________
(١) سئل الشيخ (رحمه الله): من أدلة إحياء الله الموتى في الدنيا: الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم، فقال الله: ﴿مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٤٣]، هل هذه الإماتة على حقيقتها أو هناك نوع آخر معنوي؟
فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: الجواب: أنه هذه الإماتة إماتة حقيقية، وإحياء حقيقي؛ لأن القرآن لا يجوز صرفه عن ظاهره المتبادر منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة صحيحة، والقرينة - قرينة الآية - تدل على أنه موت حقيقي، ففي نفس الآية قرينة دالة على ذلك؛ لأن سبب نزول الآية تشجيع المؤمنين على القتال، وأن الله يريد أن يفهمهم أن من ردَّه الجبن عن لقاء العدو سيجد حتفه أمامه، كهذه الألوف من بني إسرائيل، لما وقع الطاعون وفرُّوا هاربين حذرا من الموت وجدوا الموت أمامهم، فأماتهم الله، ولهذا أتبع هذه الآية بقوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: آية ٢٤٤]، ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ أي: فليس الحذر والجبن والتخلف عن القتال يضمن لكم الحياة، بل قد يفرُّ الإنسان من الموت فيجد الموت أمامه، كما وقع لهؤلاء الألوف، وكما قال تعالى: ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: آية ١٦] فقوله بعدها: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ قرينة على أنه موت حقيقي، وأن الحذر من الموت لا ينجي من الموت! ولقد أجاد من قال:
في الجبن عار وفي الإقدام مَكْرُمَة | والمرء في الجبن لا ينجو من القدر |
فأجاب الشيخ رحمه الله بقوله: الموت إذا أُطلق في لغة العرب معروف أنه يصدُق بمفارقة الروح للجسد، ولا يجوز حمله على غير هذا المعنى المتبادر إلا لدليل، ولا شك أن القرآن جاء فيه إطلاق الموت على الموت المعنوي، =
يعنِي الأرض ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (٤)﴾ بِمَا فُعِلَ عليها ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (٥)﴾ [الزلزلة: الآيات ١ - ٥] أَمَرَهَا بذلك أن تَشْهَدَ، ومن ذلك وهو الشيءُ العظيمُ: أن كُلَّ إنسانٍ يجدُ جميعَ ما قَدَّمَ من خيرٍ وشرٍّ مكتوبًا في كتابٍ: ﴿لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: آية ٤٩] ويُقال لِكُلِّ إنسانٍ في ذلك الوقتِ: ﴿اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (١٤)﴾ [الإسراء: آية ١٤] وتلك الكتبُ تُعْطَى للناسِ، آخِذٌ كتابَه بِيَمِينِهِ، أو آخذٌ بشمالِه، أو من وراءِ ظهرِه، والعياذُ بالله.
وهذه الآياتُ معناها: اعْلَمْ أيها الإنسانُ أن كُلَّ ما عَمِلْتَ من خيرٍ وَشَرٍّ هو محفوظٌ لكَ مدَّخرٌ عليكَ، إن كان خيرًا فإنما تَنْفَعُ به نفسَك، وإن كان شَرًّا فإنما تَضُرُّ به نَفْسَكَ، فعليكَ أن تجتهدَ في دارِ الدنيا وقتَ إمكانِ الفرصةِ، ولا تضيعَ الوقتَ؛ لأنه إذا ضاعَ الوقتُ نَدِمَ الإنسانُ حيث لاَ ينفعُ الندمُ، فعلينا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن رَبَّنَا يُخْبِرُنَا أن جميعَ ما عَمِلْنَا سنجدُه مَحْفُوظًا لنا أمامَنا على رؤوسِ الأشهادِ، ونُخبر به، وَنُجَازَى به، إِنْ خَيْرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فَشَرٌّ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذلك فلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. فيجبُ على العبدِ المسلمِ في دارِ الدنيا أن يلاحظَ هذا، وأن يخافَ اللَّهَ، ويخشى من أن يَجْعَلَ في صحيفتِه الفضائحَ التي يفتضحُ بها على رؤوسِ الأشهادِ؛ لأن فضيحةَ يومِ القيامةِ ليست كفضيحةِ الدنيا؛ لأَنَّ مَنِ افْتُضِحَ في الدنيا ضَاعَ عِرْضُهُ أمامَ المجتمعِ، وهو صحيحٌ يأكلُ ويشربُ وينامُ وينكحُ ويركبُ!! ولكن مَنْ افْتُضِحَ في الآخرةِ سيُجَرُّ إلى دركاتِ النارِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - ففضيحةُ الآخرةِ على رؤوسِ الأشهادِ أعظمُ.
وعلى المسلمِ أن يُحاسِبَ في دارِ
متقن لتحرك الإنسان فسقطت يده!! وقيل: مع الأسف كان شدّ يده بمعصمه غير وثيق فطاحت يده، أو سقط منكبه، أو سقطت فخذه، أو سقط رأسه عن رقبته، لا، كل هذا مشدود بشد محكم، والعظام بعضها ملصق ببعض على أبدع أسلوب وأحكمه، ثم إن الله فتح في الوجه هاتين العينين، وصبغ بعضهما بصبغ أسود، وبعضهما بصبغ أبيض، ثم جعل فيهما نور البصر، ثم فتح فمه، ثم جعل فيه اللسان ليُعبِّر به عن ضميره، ويردّ به شاذ الطعام على الأضراس ليمكنها طحنه ليمكن المعدة هضمه، ثم إنه فتح هذا الأنف وجعله مثقوباً من جهتين، وجعل فيه حاسة الشم، وزين الفم بالفك الأعلى، والفك الأسفل، ثم إنه جعل ماء العين مِلْحاً لئلا تنتن شحمتها، وجعل له شحمة لئلا يجففها الهواء، ثم أنبع عيناً عذباً في فم الإنسان وهي ريقه يبتلع بها الطعام؛ لأن الله لو أخذ ريق الواحد منكم لا يمكن أن يبتلع شيئاً ولو زبداً ذائباً، فجعل له الريق ليبل به الطعام فيسهل بلعه، وإذا أكل كثيراً يأتيه من مدد الريق ما يبلُّ له الطعام الكثير العظيم الهائل، وإذا لم يحتج إليه في الأكل أمسك عنه جمّ الريق وكثرته لئلا يُتعبه التفل، ثم إنه وضع العينين في الرأس ولم يضعهما في الرجلين، وركب فقار الظهر بعضها مع بعض، وجعل مخها داخلها، وجعل الدماغ في مخلاة حصينة، ثم جعل عليها العظام وحصنها بها، وخاط العظام خياطة هائلة محكمة، ثم خلق الكبد ووضعها في موضعها اللائق بها، ووكّلها بوظيفتها البدنية، وفعل كذلك بالكليتين والطحال والمرارة، ثم ثقب الأمعاء ليخرج منها الثُّفْل، ثم ثقب الدُبر ليخرج منه الغائط، ثم ثقب محل البول، ثم ثقب العروق والشرايين ليدور معها الدم، ولو فكرنا وشرحنا عضواً واحداً من أعضاء الإنسان
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارًا (١) أن أشهر معاني (لعل) معنيان:
أحدهما: أنها حرف ترجٍّ كما هو معروف، إلا أن الترجّي فيها بالنسبة إلى خصوص علم المخلوقين؛ لأن الله (جل علا) عالم بما كان وما سيكون وما تؤول إليه عواقب الأمور. وعلى هذا فمعنى قوله تعالى لموسى وهارون: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ﴾ [طه: آية ٤٤] أي: على رجائكما أنتما أنه يتذكر، أما الله فهو عالم أنه لا يتذكر ولا يخشى.
المعنى الثاني: هو ما ذكره بعض العلماء من أن كل (لعل) في القرآن هي بمعنى التعليل إلا التي في سورة الشعراء: ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ﴾ [الشعراء: آية ١٢٩] قالوا: هي بمعنى: كأنكم تخلدون. هكذا ذكر بعضهم، ومن المعلوم أن (لعل) تأتي في القرآن مُرادًا بها التعليل، منه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: آية ٧٨] أنعم عليكم بهذه النعم لأجل أن تشكروا. ومن شواهد إتيان (لعل) مرادًا بها التعليل قول الشاعر (٢):
وقُلتُم لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا | نَكُفُّ ووثَّقْتُم لنا كُلَّ مَوْثِقِ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٢) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
الصفات، وهذا الأسلوب معروف في كلام العرب، ومن شواهده العربية قول الشاعر (١):
إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَام | ولَيثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم |
ومرض القلوب جاء في القرآن على معنيين:
أحدهما: مرض القلوب بمعنى ما يداخلها من الشرك والشك والنفاق، كقوله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾ [البقرة: الآية ١٠].
المعنى الثاني: إطلاق مرض القلب على القلب الذي يهوى الفجور والزنا ونحو ذلك، ومنه بهذا المعنى قوله في سورة الأحزاب مخاطباً أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ [الأحزاب: الآية ٣٢] أي: يطمع في نيل الريبة منكن الذي في قلبه مرض، مَيْل إلى الفجور وما لا ينبغي، والعرب تَعْرِفُ هذا، الذي ينطوي قَلْبُهُ عَلى أمور خَسِيسة، تقول العرب: في قلبه مرض، ومن هذا المعنى قول الأعشى - ميمون بن قيس- وهو عربي فصيح يمدح رجلاً (٢):
حَافِظ للْفَرْج راضٍ بالتُّقَى | لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضْ |
(١) السابق.
(٢) البيت للأعشى، وهو في الدر المنثور (٥/ ١٩٦)، الإتقان (٢/ ٦٢) في مسائل نافع بن الأزرق.