﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)﴾ [البقرة: الآيات ٥٧ - ٥٩].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)﴾ [البقرة: آية ٥٧] لَمَّا كان بنو إسرائيلَ في التيهِ،
_________
= كالكفر، كقوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: آية ١٢٢] أي: كان كافرًا فهديناه إلى الإيمان. وقد أجمع العلماء على أن قوله في الأنعام: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ﴾ [الأنعام: آية ٣٦] أي: الكافرين يبعثهم الله، كما عليه عامة أهل التفسيرِ، إلا أن إطلاق الموت على هذا المعنى كإطلاقه على الكافر في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر: آية ٢٢] وقوله: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ [الأنعام: آية ١٢٢]، هذا لا يُحمل عليه إلا بقرينة سياق. أما الآية: ﴿خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ﴾ [البقرة: آية ٢٤٣] فالموت الذي حذروه لا شك أنه الموت المضاد للحياة القاطع لها. وقوله: ﴿خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ من قال له الله: «مُت» مات بلا شك؛ لأن الله إذا قال للشيء «كُنْ» كان، وهم إنما خرجوا من ديارهم حذر الموت الحقيقي الذي يحذره كل إنسان، القاطع للحياة. فقوله: ﴿خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ ثم قوله بعده: ﴿فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٤٣] أدلة واضحة على أنه موت حقيقي، وعليه عامة المفسرين، وهو الحق الذي لا شك فيه، فادعاء أنه موت معنوي أو غير هذا تلاعب بكتاب الله (جل وعلا)، وحمل له على غير معناه من غير دليل يجب الرجوع إليه. والله الموفق للصواب.
الدنيا وينظرَ فيما يقولُ وفيما يعملُ، ولاَ يُقَدِّمَ لصحيفتِه إِلاَّ شيئًا يعلمُ أنه يَسُرُّهُ يومَ القيامةِ إذا رَآهُ. هذا على العاقلِ أن يعملَ به ويجتهدَ فيه، مَا دَامَتِ الفرصةُ مُمْكِنَةً، وعلى كُلِّ إنسانٍ أَنْ يعلمَ أنه ليسَ مَتْرُوكًا سُدًى، فَكُلُّ إنسانٍ حركاتُه وسكناتُه في الدنيا بجميعِ جوارحِه وقلبِه، كُلُّ هذه الحركاتِ والسكناتِ مُحْصَاةٌ عليه، وَكُلُّهَا بناءُ مسكنِه الذي إليه مصيرُه النهائيُّ، فَإِنْ كانت حركاتُه وسكناتُه فيما يُرْضِي اللَّهَ وَجَدَ تلك الحركاتِ والسكناتِ، بَنَى بها قُصُورًا في غرفِ الجنةِ مع الحورِ والِولدانِ، ومجاورةِ رَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ، في نعيمٍ لا ينفدُ، وَمُلْكٍ لاَ يَنْفَدُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (٢٠)﴾ [الإنسان: آية ٢٠].
وإذا كانت حركاتُه على غيرِ الصراطِ المستقيمِ، فإن تلك الحركاتِ والسكناتِ التي يَسْتَعْمِلُهَا في معصيةِ اللَّهِ، هو يَبْنِي بها مصيرَه النهائيَّ، وهو سجنٌ من سجونِ جهنمَ - والعياذُ بالله -، وقد قَالَ بعضُ العلماءِ: إن الكفرةَ يَدْخُلُونَ منازلَهم في جهنمَ لِضِيقِهَا كما يُدْخَلُ الوتدُ في الحائطِ بالقوةِ (١). وكما سَيَأْتِي في قولِه: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (١٣)﴾ [الفرقان: آية ١٣] فقولُه: ﴿ضَيِّقًا﴾ أي: شديدَ الضيقِ، وكما هو أحدُ التفسيرين في قولِه: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (٩)﴾ [الهمزة الآيتان ٨، ٩] لأَنَّ بعضَ العلماءِ يقولونَ: «يدخلونَ في أماكنَ منها ضيقةً كما يُدْخَلُ الإنسانُ في العمودِ المنقورِ، فيُدخل في وسطِه والعياذُ بالله (٢) وهذا معنَى قولِه: ﴿ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨)﴾ [الأنعام: آية ١٠٨].
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير (٣/ ٣١١).
(٢) انظر: ابن جرير (٣٠/ ٢٩٥ - ٢٩٦)، ابن كثير (٤/ ٥٤٨).
لرأينا من غرائب صنع
الله وعجائبه ما يبهر العقول ويعتقد به الإنسان أن خالقه ذو القدرة العظيم، الذي لا يُعبد إلا هو وحده، ولا يطاع إلا هو وحده؛ ولذا من لُطْفِهِ بالإنسان: كل شيء يحتاج إلى قَطْعِه كشعره وأظفاره نَزَعَ منه روح الحياة؛ ليسهل عليه قص الأظافر وحلق الشعر، وتقصيره؛ إذ لو جعل في الأظافر الحياة كما جعلها في سائر البدن، وجعلها في الشعر لا يمكن قصُّ ظُفر إلا بعملية، ولا حلق شعر إلا بعملية! ثم إن القفا -الذي لم يجعل عنده عينين- جعله عظماً قوياً لو ضربه شيء عليه لم يضره. والأشياء الضعيفة كالكبد والطحال التي إذا مسه شيء عليها أثر عليه - وهي جهة البطن - جعل عليها الحارسَين وهما العينان، يحرسانها مِنْ أَنْ يضرَّهَا شَيْء. وهذه قطرة من بحر من غرائب صنع الله وعجائبه، والله (جل وعلا) فعل هذا من العمليات بكل واحد منا، وأنا أؤكد لكم أنه لم يحتج أن يأخذ لأمه غرفة في صِحِّيّة (١)، وأن يُبنجها ويُنومها ويُشق طبقة بطنها العليا، ثم طبقة بطنها السُّفلى، ثم ينزع المشيمة التي على الولد، ثم يسلط الأشعة الكهربائية لينظر ماذا يفعل؟! فأطباء جميع الدنيا لو اجتمعوا عن بكرة أبيهم من مشارق الأرض ومغاربها وأرادوا أن يعملوا عملية في جنين في رحم امرأة فيستحيل أن يقدروا على أن يعملوا شيئاً حتى يشقوا طبقات بطنها الثلاث، ثم يسلطوا الأشعة الكهربائية وينزعوا المشيمة عن الولد، ثم يعملون العملية، فقد يموت وهو الأغلب، وقد لا يموت، فخالق السماوات والأرض يفعل في العبد مئات العمليات، وهو لم يشق بطن أمه، ولم يحتج إلى أشعة كهربائية، بل العلم والبصر والقدرة نافذ تمام النفوذ، يفعل كيف يشاء ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران:
_________
(١) أي: عيادة صِحِّية.
﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ﴾ المراد بالحسنة هنا بإجماع المفسرين: هو ذاك الخصب، وكثرة المطر، وكثرة الأرزاق والعافية؛ أي: فإذا جاءهم الله بالحسنة فأَدَرّ عليهم السماء، وأنبت لهم الزروع والثمار، وأكثر غلات مواشيهم مِنْ ألْبَانٍ، وأسْمَان، وأزْبَاد، ولحوم، وشُعُور، وأوْبَارٍ، وأصْوَافٍ، إلى غير ذلك مما ينتفعون به مِنْ مَتَاعِ الدنيا، إذا جاءتهم هذه الحسنة ﴿قَالُواْ لَنَا هَذِهِ﴾ المعنى: هذه لنا ونحن نستحقها، وما أُعطيت لنا إلا أننا قوم عظام يستحقون هذه الكرامة، فهذا مما نستحقه؛ افتراء وكذبًا على الله.
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ [الأعراف: آية ١٣١] المراد بالسيئة هنا في أقوال المفسرين: هو ضد الحسنة، والمراد: إذا جاءهم قحط، وكان في الأرض جدب، وقلَّت أرزاقهم، وجاءتهم الأمراض. والمعنى: أن الله إذا قلَّل عليهم الأرزاق، وأمسك عنهم المطر، وجاءتهم الأمراض، إن جاءتهم هذه البلايا ﴿يَطَّيَّرُواْ﴾ أصله: يتطيروا ﴿بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾ [الأعراف: آية ١٣١] والتطير في لغة العرب: التَّشَاؤُمُ؛ أي: يَتَشَاءموا بموسى ومن معه، ويقولون: هذا الجدب، وهذه قلة الأرزاق، وهذه الأمراض ما جاءنا إلا بسبب شؤمكم، وسبب ما جئتم به من دين موسى، كل هذه البلايا بسبب شؤمكم. وهذه عادة الكفار إذا تَمَرَّدوا على الله، وعصوا الله، وكذبوا رسله، وعذبهم الله على ذلك، زعموا أن ذلك جاءهم من قِبَلِ الأنْبِيَاء (١). ونظائره في القرآن كثيرة، كما قال الكفار لنبيِّنَا ﷺ مثل ذلك لما ذكره الله عنهم في سورة النساء في قوله: ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ﴾ [النساء:
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٣٣٠ - ٣٣١).
وقال بعض العلماء: ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ المشركون؛ إذ لا مرض في القلوب أكبر من انطوائها على الشرك بالله.
وذهبت جماعة من العلماء إلى أن ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ في هذه الآية من سورة الأنفال خُصَّ بها أناس معروفون هم الذين بسط الله قصتهم في سورة النساء، وهم قوم تكلموا بكلمة الإسلام فقالوا: لا إله إلا الله محمد رَسُول الله في مكة، ثم إنهم أبوا أن يهاجروا، وفي قلوبهم إسلام وإيمان ضعيف في قلوبهم على حرف هكذا وهكذا. وإذا قيل لهم: لِمَ لا تهاجرون وأنتم مسلمون؟ قالوا: نحن مستضعفون في الأرض. وهم الذين أنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ الآية [النساء: الآية ٩٧].
قالوا: جاءوا مع كفار قريش فلما رأوا قلة المسلمين -وكان الله قلل المسلمين في أعين الكفار، والكفار في أعين المسلمين كما أوضحناه قريبًا في قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾ [الأنفال: الآية ٤٥] لما رأوا قِلَّتَهُمْ وقَلَّلَهُم الله في أعينهم جِدّاً - قالوا: هؤلاء قوم مغرورون، غرهم دينهم!! وزعموا أنهم على دين يُؤَيّد القليل المتمسك به على الكثير فاغتروا من هنا، وهؤلاء سيُغلبون ويقتلون قطعًا!! وهؤلاء المستضعفون الذين نزل فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ﴾ [النساء: الآية ٩٧] نَفَر من قريش معروفون، آمنوا بالله إيماناً ضعيفاً ولم يهاجروا، وجاءوا مع الكفار يوم بدر، قال بعض العلماء: وهم الذين قالوا مع المنافقين: ﴿غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٤٩] وهم معروفون، وهم: العاص بن منبه بن الحجاج السهمي، وعلي بن


الصفحة التالية
Icon