واشتكوا الحرَّ، دعا نبيُّ اللَّهِ موسى لهم، فَظَلَّلَ اللَّهُ عليهم الغمامَ. والغمامُ: اسمُ جنسٍ واحدُه غمامةٌ، وهو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ يُظِلُّهُمْ من الشمسِ (١). وفي قصتِهم أنه إذا كان في الليلِ ارتفعَ ليستضيئوا بضوءِ القمرِ.
وصيغةُ الجمعِ في قولِه: ﴿وَظَلَّلْنَا﴾ للتعظيمِ.
﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ لَمَّا اشتكوا في التيهِ من الجوعِ، دَعَا اللَّهَ نَبِيُّهُمْ، فأنزل اللَّهُ الْمَنَّ والسلوى. وأكثرُ علماءِ التفسيرِ (٢) على أن الْمَنَّ: التَّرَّنْجَبِينُ، وهو شيءٌ ينزلُ كالندى ثم يجتَمع، أبيضُ، حُلْوٌ، يُشْبِهُ العسلَ الأبيضَ، هذا قولُ أكثرِ المفسرين في المرادِ بِالْمَنِّ.
قال بعضُ العلماءِ (٣): ولا يعارضُ هذا ما ثَبَتَ في الصحيحِ عن النبيِّ - ﷺ - من أنه قال: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» (٤).
_________
(١) سئل الشيخ (رحمه الله) عن الفرق بين الغمام والسحاب؟
فأجاب بقوله:
السحاب غير المطر بإجماع العلماء، فالسحاب هو الوعاء الذي فيه ماء المطر، ويسمى الغمام، إلا أن هذا الغمام الذي أنزل الله عليهم يقول العلماء فيه: إنه لم بكن وعاء كالسحاب، وإنما هو غمام أبيض رقيق يشبهه، أنزله الله عليهم، مع أن الغمام يطلق على السحاب.
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٦)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٥.
(٣) المصدر السابق.
(٤) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ حديث رقم: (٤٤٧٨)، (٨/ ١٣٦)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الحديثين رقم: (٤٦٣٩، ٥٧٠٨)، ومسلم في صحيحه، كتاب الأشربة، باب: فضل الكمأة، ومداواة العين بها، حديث رقم: (٢٠٤٩)، (٣/ ١٦١٩).
﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ [الأنعام: آية ١٠٩] سببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ (١): أن كفارَ مكةَ اقْتَرَحُوا على النبيِّ - ﷺ - اقتراحاتٍ كثيرةً، قَصْدُهُمْ بها التعنتُ، لا طلبَ الحقِّ، قالوا له: أنتَ تزعمُ لنا أن عيسى بنَ مريمَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وأن سليمانَ كان يركبُ الريحَ، وأن صَالِحًا خَرَجَتْ له ناقةٌ عُشَرَاءُ جَوْفَاءُ وبْرَاءُ من صخرةٍ، فأَحْيِ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ ونسألَه عنك، وَائْتِنَا بالملائكةِ لنسألهم: هل أَنْتَ على حَقٍّ؟ واجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وباعِدْ عنا جبالَ مكةَ لِنَزْرَعَ بينها، في تعنتاتٍ كثيرةٍ سيأتي كثيرٌ منها في قولِه (٢): ﴿وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ﴾ يَعْنُونَ: مِنْ ذَهَبٍ: ﴿أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ [الإسراء: الآيات ٩٠ - ٩٣] هذا من تَعَنُّتَاتِهِمْ، ومنها أنهم قالوا: «اسْأَلْ رَبَّكَ ينزل علينا الملائكةَ» (٣)
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (٢١)﴾ [الفرقان: آية ٢١].
وَقَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ (٤) تفسيرَ قولِه: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
_________
(١) ما سيذكره الشيخ (رحمه الله) من سبب النزول ورد نحوه عن محمد بن كعب القرظي مرسلاً كما في ابن جرير (١٢/ ٣٨ - ٣٩)، أسباب النزول للواحدي ص ٢٢٢، لباب النقول للسيوطي ص١٢٠.
(٢) انظر: أسباب النزول للواحدي ص٢٩٢، لباب النقول ص ١٧٣.
(٣) انظر: ابن جرير (١٩/ ١)..
(٤) انظر: أضواء البيان (٢/ ١٨٤).
آية ٦] وإنما قصصنا عليكم هذا النموذج من قدرة الله، وصنعه فيكم، وعدم شقّه لبطون أمهاتكم؛ لأن الله أمركم أن تنتبهوا إليه، وأن لا تُصرفوا عنه.
وذلك في السورة الكريمة، سورة الزمر -وكل سورة من القرآن كريمة- أعني قوله في الزمر: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة؛ لأن المشيمة تكون منطوية على الولد لا يراه إلا من قشعها عنه ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ ثم قال وهو محل الشاهد: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [الزمر: آية ٦] يا ناس!! فأنى تصرفون؟! أين تروح عقولكم عن قدرة خالق السماوات والأرض الجبار الأعظم ولا تنظرون فعله فيكم وأنتم في بطون أمهاتكم ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: آية ٦] ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (٨)﴾ [الانفطار الآيات: ٦ - ٨] وهذا التصوير فيه من غرائب صنع الله وعجائبه ما يبهر العقول؛ لأنكم كلكم أيها الحاضرون طُبعتم على طابع واحد، وصُببتم صبّة واحدة، فالأنف من جميعكم في محل الأنف، والعينان في محل العين، والفم في محل الفم، والأذن في محل الأذن، ولم يشتبه منكم اثنان حتى لا يُعرف أحدهما من الآخر، كل من رآكم يعرف أن هذه صورة فلان، وهذه صورة فلان، ولو جاء من الخلق أعداد ملايين الحصى لم يضق علم خالق السماوات والأرض حتى يعلم لكل واحد منهم صورة فيطبعه عليها لا تشابه صورة الآخر، ولم تتشابه أصواتكم ولا آثاركم في الأرض، ولا بصماتكم في الورق، كل واحد طُبع على طابع مستقل، لم يشاركه فيه غيره، ولم يشابهه غيره، وهذا يدل على كمال العلم
آية ٧٨] وكما قال عن الرسل المذكورين في يس إن قومهم قالوا: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ﴾ [يس: الآيتان ١٨، ١٩] وكما ذكر عن قوم صالح أنهم قالوا له: ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)﴾ [النمل: آية ٤٧] والتطير معناه: التشاؤم، والتشاؤم هو أن يقول: جاءني هذا بِشُؤْمِكَ. وأصل [١٧/ب] التطير (١) مشتق من الطير،/ لأن عادة العرب أن أكثر ما كانوا يتشاءمون به الطير، وهو الطيرة المعروفة، كانوا يأتون الطَّير ويطيرونها مِنْ مَوَاقِعِهَا، فإذا طارت على اليمين قالوا: هذا سانح.
وتَيَمَّنُوا به، وإذا طارت إلى الشمال قالوا: هذا بَارِح، وتشاءموا له، كما قال علقمة بن عبدة التميمي (٢):

وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلأَطْيَارِ يَزْجُرُهَا عَلَى سَلاَمَتِهِ لاَ بُدَّ مَشْؤُومُ
وكانوا يدّعون أنهم يعرفون أمور الغيب من طيران الطيور، وجِهَات طيرانها، وأصواتها، والأشجار التي تنزل عليها، وكان من المشتهرين بذلك بنو لِهْب من قبائل العرب، وفيهم قال الشاعر (٣):
خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِيًا مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذا الطَّيرُ مَرَّتِ
وقد جاءت أحاديث عن النبي ﷺ تنهى عن الطيرة وتحذِّر المسلمين، منها: حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وغيره أنه صلى الله عليه وسلم
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٦٤).
(٢) البيت في ديوانه ص٥٦، وشطره الأول في الديوان هكذا:
وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْغِرْبَانِ.................................................
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنعام.
أمية بن خلف الجمحي، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وابن عمه أبو قيس بن الوليد ابن المغيرة، والحارث بن زَمْعَة بن الأسود بن المطلب، هؤلاء هم النفر المعرفون الذين قالوا: إنا ﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ [النساء: الآية ٩٧] وعلى كل حال فلما التقى المسلمون والمشركون يوم بدر كان الذين في قلوبهم مرض من المنافقين، أو المشركين، أو هؤلاء النفر القليلين الذين آمنوا إيماناً ضعيفاً في مكة وخرجوا مع الكفار يوم بدر وقتلوا كفاراً - والعياذ بالله - قالوا: ﴿غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ﴾ الإشارة في قوله: ﴿هَؤُلاء﴾ إلى النبي ﷺ وأصحابه و ﴿دِينُهُمْ﴾ فاعل ﴿غَرَّ﴾ يعني: غَرَّهُمْ دِينُهُمْ حيث اغتروا به وظنوا أن المتمسك بهذا الدين ولو كان قليلاً ضعيفاً يغلب القوي العظيم فاغتروا، وسيكون هذا الغرور سببا لهلاكهم!! والعرب تقول: غَرَّه يغره غروراً، على غير قياس. فالفاعل: غارّ، والمفعول: مغرور، إذا خَدَعَهُ.
وهم نسبوا هنا الغرور إلى الدين زاعمين أنهم انخدعوا في دينهم حيث يظنون أن القليل المتمَسِّك به يغلب القوي غير المتمسك به، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، تقول: غرّه يغره. إذا خَدَعَهُ، ومنه سُمِّيَ الشيطان غروراً لكثرة غروره للآدميين بتزيينه ووساوسه، كما قال تعالى: ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [فاطر: الآية ٥] ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة أو غيره (١):
إِنَّ امْرأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ بَعْدِي وَبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لمَغْرُورُ
_________
(١) البيت في الخصائص (٢/ ٤١٤)، المحكم لابن سيده (٥/ ٣٦٠).


الصفحة التالية
Icon