قالوا: فمرادُه - ﷺ - بقوله: «مِنَ الْمَنِّ» أي: من جنسِ ما مَنَّ اللَّهُ به على بني إسرائيلَ، حيث إنه طعامٌ يوجدُ - فضلاً من اللَّهِ - من غيرِ تَعَبٍ، وظاهرُ الحديثِ أن الكمأةَ مِنْ نَفْسِ مَا مَنَّ اللَّهُ به على بني إسرائيلَ في التِّيهِ.
[٢/ب] / وقوله: ﴿وَالسَّلْوَى﴾ جمهورُ المفسرين، أو عامةُ المفسرين على أن (السلوى): طَيْرٌ (١)، قال بعضُهم: هو السُّمَانَى، وقال بعضُهم: طائرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى. وتفسيرُ مَنْ فَسَّرَ السلوى بأنه (العسلُ) غيرُ صوابٍ، وكذلك ادعاءُ أن السلوى لا يُطْلَقُ على العسلِ في لغةِ العربِ غيرُ صوابٍ. والتحقيقُ: أن السلوى يُطْلَقُ في لغةِ العربِ على العسلِ، ومنه قولُ الْهُذَلِيِّ (٢):
وَقَاسَمْتُهَا بِاللَّهِ جَهْدًا لأَنْتُمُ | أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا |
لكن ليس المرادُ بالسلوى في الآيةِ العسلَ، وإنما المرادُ به طائرٌ، كما عليه عامةُ المفسرين، هو السُّمَانَى أو طائرٌ يُشْبِهُ السُّمَانَى.
وقوله: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ مَحْكِيُّ قَوْلٍ محذوفٍ (٣)، أي:
وقلنا لهم: كُلُوا من طيباتِ ما رزقناكم كهذا الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وهما طَيِّبَانِ حِسًّا وَمَعْنًى؛ لِلَذَاذَةِ طعمِهما وَحِلِّيَتِهِمَا شَرْعًا؛ لأنهما مَنٌّ وَفَضْلٌ من اللَّهِ جل وعلا.
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٧)، دفع إيهام الاضطراب ص٢٥.
(٢) اللسان (مادة: سلا)، القرطبي (١/ ٤٠٧)، الدر المصون (١/ ٣٧٠).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٨)، الدر المصون (١/ ٣٧٠).
مَلَكٌ} [الأنعام: آية ٨] وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الاقتراحاتِ، فقالوا له: أَحْيِ لنا قُصيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وَائْتِنَا بالملائكةِ، كما يأتي في قولِه: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى﴾ كَقُصَيِّ بنِ كلابٍ الذي اقترحوا إحياءَه لِيُكَلِّمُوهُ ﴿وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً﴾ أي: ولو جِئْنَاهُمْ بالملائكةِ وجميعِ المخلوقاتِ جماعاتٍ جماعاتٍ ويشهدونَ لكَ ﴿مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: آية ١١١] وَلَمَّا قالوا للنبيِّ - ﷺ -: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا، وَاللَّهِ لئن جعلَه اللَّهُ لنا ذَهَبًا لَنَتَّبِعَنَّكَ ولنؤمنن بما جئتَ به، فَطَمِعَ قومٌ من أصحابِ النبيِّ - ﷺ - في إيمانِهم، فقالوا له: يا رسولَ اللَّهِ - ﷺ -: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا لأَجْلِ أن يؤمنوا، فَهَمَّ - ﷺ - أن يدعوَ اللَّهَ ليجعلَ الصفا ذهبًا، فجاءَه جبريلُ (عليه السلامُ) وخيَّره قال: إن شئتَ جعلَه اللَّهُ لهم ذَهَبًا، ولكن إن كفروا بعدَ تلك الآيةِ التي اقترحوها أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ ولم يُنْظِرْهُمْ، وإن شئتَ تركَ عنهم الآياتِ المقترحةَ، وَأَمْهَلَهُمْ ليتوبَ تائبُهم. فاختارَ النبيُّ - ﷺ - الأخيرةَ (١)؛
لأن قومًا إذا اقترحوا آيةً عُظْمَى وجاءتهم ولم يؤمنوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، كما يأتي في قولِه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا﴾ [الإسراء: آية ١٩] يعني: فَأَهْلَكُهُمُ اللَّهُ وَدَمَّرَهُمْ فأنزلَ اللَّهُ: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ [الأنعام: آية ١٠٩] الإقسامُ معناه: الْحَلِفُ (٢). تقول العربُ: «أَقْسَمَ فلانٌ». إذا حَلَفَ. وأصلُ (القسمِ) الذي هو اليمينُ من (الانقسامِ)؛ لأنه لا يكونُ إلا في طَائِفَتَيْنِ مُنْقَسِمَتَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تُكَذِّبُ الأخرى،
_________
(١) مضى تخريجه قريبًا..
(٢) انظر: المفردات للراغب (مادة: قسم) ص ٦٧٠)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١).
والقدرة الباهرة العظيمة التي يجب على الإنسان أن يعلم عظمة المتصف بها ويطيعه ولا يتمرد عليه، وهذا معنى قوله: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾ [الأعراف: آية ١١].
وعلى هذا القول -أن المراد بخلق بني آدم في الأصلاب، وتصويرهم في أرحام الأمهات- يكون قوله: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ﴾ تكون (ثم) هنا للترتيب الإخباري، أي: ثم أخبرناكم بعد ذلك أنّا قلنا للملائكة: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾. ولفظة (ثم) قد تأتي في القرآن للترتيب في الذكر لا لترتيب الحقيقة الواقعة في زمنها، وهذا الأسلوب وإن كان غير ظاهر فهو موجود في القرآن وفي كلام العرب، فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى في الأنعام -يعني شريعة نبينا ﷺ وهو آخر الأنبياء: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)﴾ ثم قال: ﴿ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ [الأنعام: الآيتان ١٥٣، ١٥٤] وإتيان موسى الكتاب قبل نزول هذا على النبي ﷺ بقرون، فدّل على أن (ثم) هناك ليست للترتيب الزماني وإنما هي للترتيب الذكري، ونظير ذلك في القرآن قوله في سورة البلد: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧)﴾ [البلد: الآيات ١١ - ١٧] لأنه ليس المراد أنه مثلاً يقتحم العقبة، وأنه يطعم ذا المسغبة، ويفعل كذا وكذا، ثم بعد ذلك يكون من الذين آمنوا، لا، ليس هذا هو المراد، وإنما هي للترتيب الذكري، لا للترتيب الزماني المعروف، ومن إتيان ذلك في كلام العرب قول الشاعر (١):
_________
(١) البيت للأقيشر الأسدي، وهو في ديوانه ص١١٥، وفيه (من شرها).
قال: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ» (١) وفيه أحاديث كثيرة معروفة تنهى عن ذلك، وجاء ببعض الأحاديث أن الإنسان إذا وجد شيئًا منها يقول: «اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ ضَرَرَ إِلاَّ ضَرك» (٢) الحديث المشهور.
وعلى كل حال فالتطير والتشاؤم من صفات الكفار، وعلى المسلمين اجتنابه، وأن يتوكلوا على الله، ولا ينبغي لهم أن يمنعهم التطير من سفر، ولا أن يجزعوا من التطير. واعلموا أن الأمور بيد الله، وأن الشؤم الحقيقي الذي يستجلب كل الضرر هو مخالفة رب العالمين (جل وعلا)، أما كل فعل لم يخالف به الله فهذا لا ضرر فيه ولا طيرة؛ لأن الله ما أباحه إلا لأنه لا ضرر فيه. وعلى المسلم أن يتحرز من هذا كله، ولا يتشاءم بشيء، وأن يبني الأمور على التوكل
_________
(١) أخرجه أحمد (١/ ٣٨٩، ٤٣٨، ٤٤٠)، والبخاري في الأدب المفرد حديث رقم (٩١٢)، وأبو داود في الكهانة والتطير، باب: في الطيرة. حديث رقم (٣٨٩٢)، (١٠/ ٤٠٥)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الطيرة. حديث رقم (١٦١٤)، (٤/ ١٦٠)، وقال: «حسن صحيح» اهـ. وابن ماجه في الطب، باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة. حديث رقم (٣٥٣٨)، (٢/ ١١٧٠)، والحاكم (١/ ١٧ - ١٨)، والطيالسي في المسند ص٤٧، والطحاوي في المشكل (١/ ٣٥٨)، وشرح المعاني (٤/ ٣١٢)، وابن حبان، الإحسان (٧/ ٦٤٢)، والبيهقي (٨/ ١٣٩)، والبغوي في شرح السنة (١٢/ ١٧٧ - ١٧٨)، من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه). وهو في صحيح الأدب المفرد برقم (٦٩٨)، السلسلة الصحيحة برقم (٤٢٩)، صحيح أبي داود (٣٣٠٩)، صحيح ابن ماجه (٢٨٥٠)، غاية المرام (٣٠٣)، صحيح الترمذي (١٣١٤).
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ٢٢٠)، وابن السني في عمل اليوم والليلة ص١١٧، ولفظه: «اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك».
ثم إن الله أجاب عما قاله المنافقون والذين في قلوبهم مرض قال لهم الله: لا. كأن المعنى: لا، لم يغر هؤلاء دينهم، وهم على بصيرة من أمرهم وعلى حق، ولكنهم توكلوا على الله، ومَنْ تَوَكَّلَ عَلَى الله توكل على قَوِيِّ الجَنَابِ عَزِيز منيع لا يُضام مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ؛ ولذا قال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ التوكل معناه: الثقة الكاملة، وتفويض الأمور إليه (جل وعلا). ﴿يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ يثق بالله ثقة كاملة ويُسلم إليه أموره، ويفوض له تفويضاً تامّاً توكلاً عليه. ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ جل وعلا ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الضمير الرابط محذوف دلّ المقام عليه. ومن يتوكل على الله فإنه يعزه بعزته وينصره؛ لأن الله عزيز حكيم.
والعزيز: هو الغالب الذي يقهر غيره ويغلبه فالله (جل وعلا) عزيز غالب على أمره. والعزة في لغة العرب: الغَلَبة ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ [المنافقون: الآية ٨] أي: ولله الغلبة ولرسوله. ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص: الآية ٢٣] يعني: غَلَبَنِي في المخاصمة. والعرب تقول: من عَزّ بَزّ (١) يعنون: من غلب اسْتَلَب؛ لأنه كان الغالب ينهب مال المغلوب، ويقولون: مَنْ عَزَّ بَزَّ، وقد قالت الخنساء بنت عمرو الشريد السلمية الشاعرة (٢):
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى | إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزّا |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام.