﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ هنا محذوفٌ دلَّ المقامُ عليه (١)، والمعنى: ﴿كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي: أَنْعَمْنَا عليهم هذه النعمَ فقابلوا نِعَمَنَا بعدمِ الشكرِ وارتكابِ المعاصي، ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ بتلك المعاصي التي قَابَلُوا بها نِعَمَنَا ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
وقال بعضُ العلماءِ: أُمِرُوا أن لا يدَّخِرُوا من المنِّ والسلوى فخالفوا أَمْرَ اللَّهِ وَادَّخَرُوا، وَمَا ظَلَمُونَا بذلك الادخارِ المنهيِّ عنه ولكن كانوا أنفسَهم يَظْلِمُونَ (٢). والقولُ الأولُ أَشْمَلُ، وهو الصوابُ.
وقوله (جل وعلا) في هذه الآيةِ: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا﴾ فيه الدليلُ الواضحُ على أن نَفْيَ الفعلِ لا يستلزمُ إمكانَه (٣)؛ لأن اللَّهَ نفى عنه أنهم ظَلَمُوهُ، ونفيُه (جل وعلا) عن نفسِه أنهم ظَلَمُوهُ لا يدلُّ على أنه يمكنُ أن يَظْلِمُوهُ، بل نفيُ الفعلِ لا يدلُّ على إمكانِه.
وقولُه جل وعلا: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (لكن) واقعةٌ في مَوْقِعِهَا، والمعنى: أن هذا الظلمَ واقعٌ على أنفسِهم حيثُ عَرَّضُوهَا به لسخطِ اللَّهِ (جل وعلا) وعقابِه، فَضَرَرُ فِعْلِهِمْ عائدٌ إليهم، واللَّهُ (جل وعلا) لا تَضُرُّهُ معاصي خَلْقِهِ، ولا تَنْفَعُهُ طاعاتُهم ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: آية ٦].
وقد بَيَّنَ القرآنُ في آياتٍ كثيرةٍ أن اللَّهَ (جل وعلا) لا يتضررُ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٩)، الدر المصون (١/ ٣٧١).
(٢) انظر: البحر المحيط (١/ ٢١٥).
(٣) المصدر السابق.
فَيُقْسِمُ أحدُ الطرفين ليقويَ خبرَه ويؤكدَه.
ومعنَى: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ حَلَفُوا بِاللَّهِ قائلين: وَاللَّهِ لئن جَعَلْتَ لنا الصَّفَا ذَهَبًا لَنُؤْمِنَنَّ بِكَ وَلَنَتَّبِعَنَّكَ.
وقولُه: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ معناه: أقسموا جهدَ أيمانهم، أي: غايةَ ما يمكنُهم من تغليظِ اليمينِ وتوكيدِها، و (جَهْدُ اليمينِ) معناه: بُلُوغُ غايةِ ما يمكنُ من تغليظِها وتوكيدِها (١).
وفي إعرابِ قولِه: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أَوْجُهٌ من الإعرابِ (٢):
أعربها بعضُ العلماءِ مفعولاً مُطْلَقًا بالمعنَى من: ﴿وَأَقْسَمُوا﴾ أي: فَهِيَ ما نابَ عن المطلقِ، كما تقولُ: ضربَه أشدَّ الضربِ، وسارَ أشدَّ السيرِ، وأقسمَ أشدَّ الإقسامِ.
فمعنَى: ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أَوْكَدُ أقسامِهم وأغلظُها. وعلى هذا فهو مفعولٌ مطلقٌ بالمعنَى، ما نابَ عن المطلقِ من: ﴿وَأَقْسَمُوا﴾ لأَنَّ معنَى ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أَشَدُّ إقساماتِهم وأغلظُها وَأَوْكَدُهَا.
الوجهُ الثاني مِنْ أَوْجُهِ الإعرابِ: أنه حالٌ. أي: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ في حالِ كونِهم جَاهِدِينَ في تغليظِ أيمانِهم وتوكيدِها. ولاَ يُنَافِي هذا أن الحالَ تكونُ نكرةً، وأن المصدرَ المؤولَ بالحالِ هنا مضافٌ إلى معرفةٍ؛ لأَنَّ الحالَ إِنْ عُرِّفَتْ لَفْظًا فهي مُنَكَّرةٌ معنًى، كما قال في الخلاصةِ (٣):

وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَوَحْدَكَ اجْتَهِدْ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١)، القرطبي (٧/ ٦٢).
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٦٢)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١)، الدر المصون (٤/ ٣٠٥).
(٣) الخلاصة ص ٣٢، وانظر شرحه في التوضيح والتكميل (١/ ٤٦٩).
سَأَلْتُ رَبِيعَةَ مَنْ خَيْرُهَا... أَباً ثُمَّ أُمّاً فَقَالُوا: لِمَهْ؟
لأن قوله: (من خيرها أباً ثم أمّاً) المعنى: من خيرها أباً وأمّاً؟ ولا ترتيب هنالك، وقول الآخر (١):
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
لأن سيادة الأب وسيادة الجد قبل سيادة الابن، وقد عُطفت عليها بـ (ثم)، فتبين أن الترتيب في الذكر لا في الزمان. هكذا قال بعضهم، والأول أظهر. وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ﴾ [الأعراف: آية ١١].
هذا القول قاله الله معلَّقاً أولاً - بلا نزاع - قبل أن يخلق آدم؛ لأنا ذكرنا في سورة «ص» وسورة «الحجر» التصريح بذلك حيث قال في سورة الحجر: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (٢٨) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (٢٩)﴾ [الحجر: الآيتان ٢٨، ٢٩] وقال في ص ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ﴾ [ص: آية ٧١].
[٤/أ] أمرهم بالسجود له، وهذا السجود / تعظيم لله (جل وعلا)؛ لأنه امتثال أمره، لا عبادة لآدم، ولا سجود إلا لأمر الله (جل وعلا)، والأمر إن كان ممتثلاً به أمر الله فالمطاع فيه الله، ونظيره أن ملَكَ الموت يقال له: اقبض روح محمد ﷺ وسائر الأنبياء. فأي جريمة في الدنيا أعظم من قتل النبي ﷺ ونزع روحه، وقتل الأنبياء والأولياء؟ لكن ملك الموت مأمور من الله، فهو مطيع في ذلك الفعل؛ لأنه إنما فعله بأمر الله.
_________
(١) البيت في مغني اللبيب (١/ ١٠٧).
على الله، ومراعاة أوامره ونواهيه، كما هو معلوم لا يخفى. وهذا معنى قوله: ﴿يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾.
﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ﴾ أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة: أن الله لمّا ذكر أنهم يكفرون به، ويتمردون ويعارضون رسله، وأنهم مع ذلك يزعمون أن الذي يصيبهم [إنما هو بسبب شؤم نبيهم موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، فأكذبهم] (١) الله ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ﴾ أي: الطائر المشؤوم التي جاءتهم البلايا منه عند ربهم وذلك إنما جاءهم بسبب كفرهم بالله ومعصيتهم لله؛ لأن الكفر بالله ومعصية الله هو الطائر المشؤوم الذي يأتي صاحبه بسببه كل سوء ومكروه في الدنيا والآخرة. وقال بعض العلماء: طائرهم وحظهم عند الله هو الذي يأتيهم بالخير ويأتيهم بالشر، وليس ما جاءهم من قِبلنا ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ لا يعلمون أن ذلك هو الحق فيكذبون على الله ويَتَقَوَّلُونَ عَلَى موسى ومَنْ مَعَهُ أن ما أصابهم بسبب شؤمهم. وهذا معنى قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٣١].
﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (١٣٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٣٢، ١٣٣].
﴿وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢)﴾ [الأعراف: آية ١٣٢].
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه، ولا يوقعه إلا في موقعه. فاقتضت عزته وقهره وسلطانه ألاّ يُضام وليه المتوكل عليه المستند إليه، وألا يُقهر. واقتضت حكمته البالغة ألاّ يجعل وليه كعدوه، وألا يسوي بينهما بل ينصر وليه على عدوه. والحكمة لا تتم إلا بالعلم؛ لأن تمام الحكمة بتمام العلم؛ ولذا لا تتم الحكمة تماماً كليّاً إلا لله وحده (جل وعلا)؛ لأنه هو العالم بخفايا الأُمور وخباياها وما تؤول إليه، فالله وحده هو الذي لا يجري عليه: لو فعلت كذا لكان خيراً. أما غيره فإنه قد يفعل الأمر يظنه صواباً، وأنه في غاية الحكمة، ثم يتبين له بعد ذلك أن غيره أصوب منه، فيقول: لو فعلت كذا لكان كذا!! وليتني لم أفعل!! وفي الحديث النهي عن (لو) لأنها تفتح باب الشيطان. لو فعلت كذا لكان كذا (١).
ليت شِعْرِي وأينَ مني (ليتُ) إن (ليتاً) وإن (لوّاً) عناءُ (٢)
العناء: التعب وكثرة: ليتني فعلت، وليتني لم أفعل، ولو فعلت كذا لكان كذا. كل هذا يقع من عدم العلم بعواقب الأمور، والله (جل وعلا) وحده لا يجري عليه: لو فعلت كذا لكان أصوب. لعلمه بما تنكشف عنه الغيوب، وما تؤول إليه الأمور، فالحكمة الكاملة له، أما غيره (جل وعلا) فقد يفعل الأمر يظنّه حكمة وصواباً ثم يَنْكَشِفُ الغَيْبُ عَنْ خلاف ذلك كما قال (٣):
أُلامُ على (لوٍ) ولو كنتُ عالماً بأذناب (لوٍ) لم تفُتني أوائله
_________
(١) مسلم في القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز... ، حديث رقم: (٢٦٦٤) (٤/ ٢٠٥٢).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon