بمعاصي خَلْقِهِ ولا ينتفعُ بطاعاتِهم، كقولِه: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: آية ٨]، وقوله: ﴿فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [التغابن: آية ٦]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: آية ١٥]، وفي صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ - ﷺ - فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّه: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» الحديث (١).
هذا معنى قولِه: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أي: قَابَلُوا نِعَمَنَا بالمعاصي، وما ظلمونا بذلك ولكن ظَلَمُوا أنفسَهم بذلك.
وقوله جل وعلا: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة: آية ٥٨] أي: وَاذْكُرْ ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ أي: حين قُلْنَا. وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ. ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ الصوابُ الذي عليه أكثرُ الْمُفَسِّرِينَ أن هذه القريةَ هي (بيتُ الْمَقْدِسِ) (٢). وقال جماعةٌ من العلماءِ: (هي أَرِيحَا) (٣). وعن الضحاكِ أنها (الرَّمْلَةُ)، و (فلسطينُ)، و (تَدْمُر) ونحو ذلك (٤).
_________
(١) مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم: (٢٥٧٧)، (٤/ ١٩٩٤).
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ١٠٢)، القرطبي (١/ ٤٠٩).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ١٠٣)، القرطبي (١/ ٤٠٩).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٤٠٩).
والأَيْمَانُ: جمعُ اليمينِ، وَأَوْكَدُ الأيمانِ وأغلظُها هو ما كان بِاللَّهِ، وهم كانوا يحلفونَ بِآلِهَتِهِمْ وأصنامِهم، وإذا أَرَادُوا جهدَ اليمينِ وتوكيدَها وإغلاظَها حَلَفُوا بِاللَّهِ (١).
وقولُه جل وعلا: ﴿لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ﴾ أَيْ: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، أما الآياتُ التي لم يَقْتَرِحُوهَا فقد جاءتهم بكثرةٍ، وأعظمُ الآياتِ: هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه آيةٌ عُظْمَى ومعجزةٌ كُبْرَى باقيةٌ تترددُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولأَجْلِ أنه أعظمُ الآياتِ، وأكبرُ المعجزاتِ، أَنْكَرَ اللَّهُ في سورةِ العنكبوتِ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ به، وطلبَ آيةً غيرَه، حيث قال: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (٥٠)﴾ ثم قال مُنْكِرًا عليهم: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)﴾ [العنكبوت: الآيتان ٥٠، ٥١] فإنكارُه على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بأكبرِ الآياتِ وأعظمِها، وهو هذا القرآنُ العظيمُ دليلٌ على أنه أعظمُ آيةٍ.
والآياتُ التي سَأَلُوهَا وَاقْتَرَحُوهَا، إنما اقْتَرَحُوهَا تَعَنُّتًا وَعِنَادًا، لاَ طَلَبًا للحقِّ؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ﴾ هذه صورةُ إقسامِهم حَكَاهَا اللَّهُ من غيرِ حكايةِ لفظِهم؛ لأنه لو حَكَى لفظَهم لقالَ: «لَئِنْ جَاءَتْنَا آيةٌ لَنُؤْمِنَنَّ بِهَا» فَحَكَى القصةَ بالمعنَى لاَ باللفظِ. أَقْسَمُوا جَاهِدِينَ قائلين: لئن جاءتهم آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا، كَأَنْ يجعلَ اللَّهُ لهم الصَّفَا ذَهَبًا، أو يبعثَ لهم قُصَيًّا لِيُكَلِّمَهُمْ، أو يأتيَهم بالملائكةِ، أو يشقَّ عنهم جبالَ مكةَ ويباعدَها ليزرعوا في
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٦٢).
﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: آية ١١] قال بعض العلماء: إن الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم لمَّا عظَّموا أنفسهم وحقروا بني آدم لما قال لهم الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾ [البقرة: آية ٣٠] ثم أثنوا على أنفسهم وقالوا: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: آية ٣٠] امتحنهم الله وعلم آدم الأسماء كلها، ثم قال لهم: ﴿أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء﴾ [البقرة: آية ٣١] فعجزوا وقالوا: ﴿لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة: آية ٣٢] ثم قال لآدم: تعال أنت فبين هذا العلم الذي عجزوا عنه وجهلوه. فقام آدم وبيّنها تماماً؛ ولذا قال: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)﴾ [البقرة: آية ٣٣] إن هذا الذي حقرتم يعلم ما لا تعلمون، وعنده من الخصال ما ليس لديكم.
وكلام العلماء في تفضيل الملائكة والآدميين لا يعنينا؛ لأن أكثر الناس مختلفون فيه، وكلٌّ يَحْتَجُّ بِظَوَاهِر من كتاب الله، ولا دليل جازماً يجب الجزم واليقين به، ولا حاجة تدعو إليه، واختلاف العلماء فيه معروف (١)، وعلى كل حال فالله أظهر فضل آدم هنا حيث علمه ما جهله كل الملائكة وأمَرَهم بالسجود.
قال بعض العلماء: أمرهم بالسجود لمَّا عَلِم ما لم يعلموا، ويرشد له قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: آية ٣٠] ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٣١)﴾ [البقرة: آية ٣١] وبعد ذلك قال:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(... ) (١) و (ما) الثانية مؤكدة لها تأكيدًا لها؛ لأن تكريرها يفيدها تأكيدًا، وأصلها: ما ما بتكرير لفظة (ما) وأنهم استثقلوا توالي حرفين متجانسين فأبدلوا ألف (ما) الأولى هاء، وقالوا: (مهما) هذا قول الخليل واختيار جلّ البصريين.
وقال جماعة آخرون: إن (مهما) أصلها: (مه) التي هي اسم فعل بمعنى: اكفف، وأن (ما) الأخرى هي (ما) التي تُعلِّق الشرط بالجزاء، والمعنى: اكفف. اكفف يا موسى ما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين؛ أي: كف عنا مجيئك بالآيات، ما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين.
وعلى هذين القولين فأصل (ما) مركبة لا بسيطة.
وقال جمهور علماء العربية: إن (مهما) أصلها حرف بسيط وَضَعَتْهُ العَرَبُ هذا الوضع تُعلِّق به الجزاء على الشَّرْطِ، وهو عند الأصُوليِّينَ من صِيَغِ العُمُومِ، وعمومها من جهة الأحوال والأوضاع. والمعنى: أي شيء تأتينا به كائنًا ما كان من آية. الضمير في قوله: (به) راجع إلى (مهما) وكذلك الضمير المؤنث في قوله: (بها) راجع إلى الآية التي هي مبنية لـ (مهما)، فكلا الضميرين راجع في الحقيقة
_________
(١) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل كما ترى، ويمكن أن يُستدرك بعضه مما ورد في الدر المصون (٥/ ٤٣١)، وهو قوله: «واختلف النحويون في (مهما) هل هي بسيطة أم مركبة؟ والقائلون بتركيبها اختلفوا: فمنهم من قال: هي مركبة من ما ما، كُررت (ما) الشرطية توكيدًا فاستثُقل توالي لَفْظَيْنِ فأُبدلت ألف (ما) الأولى هاء. وقيل: زيدت (ما) على (ما) الشرطية كما تُزاد على (إنْ) في قوله: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم﴾ فعُمل العمل المذكور للثقل الحاصل. وهذا قول الخليل... ».
وهذا سيد البشر محمد ﷺ علمه الله العلوم العظيمة كان يقول في آخر عمره في حجة الوداع: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لمَا سُقْتُ الهَدْيَ ولجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» (١) فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟! وهذا معنى قوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللهَ﴾ - جل وعلا - ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: الآية ٤٩].
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (٥١)﴾ [الأنفال: الآيتان ٥٠، ٥١].
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا نبي الله. (لو) حرف شرط تقلب المضارع ماضياً غالباً. ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ هنا بمعنى: لو رأيت؛ لأن (لو) من حروف الشروط التي تختص بالمعنى الماضي غالباً، وفي أغلب أحوالها إذا جاء بعدها مضارع تقلبه إلى معنى المُضِي، وقد لا تقلبه إلى معنى المُضِي فيأتي بعدها مضارع، وهو ليس بكثير، ولكنه موجود في كلامِ العرب، ومن إتيان المعنى بعدها مضارعاً ولو كان ماضياً: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً﴾ [النساء: الآية ٩] لأن تركهم للذرية مستقبل؛ لأنهم في ذلك الوقت أحياء. ومن إتيانه مستقبلاً غير مصروف إلى الماضي قول المجنون (٢):

فَلَوْ تَلْتَقِي أَصْدَاؤُنا بَعْدَ مَوْتِنَا وَمِنْ دُونِ رمسينا مِنَ الأَرْضِ مَنْكبُ
لظَلَّ صَدَى صوتي وإن كنتُ رمَّةً لصوت صَدَى ليلى يهشّ ويطْرَبُ
_________
(١) مضى تخريجه عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام.
(٢) البيتان في ديوانه ص٢٤


الصفحة التالية
Icon