والتحقيقُ الذي عليه جمهورُ المفسرين أنها (بيتُ المقدسِ)، ويدلُّ عليه قولُه في المائدةِ: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: آية ٢١] هذه القرية. وَلَمَّا زالَ عنهم التيهُ، ومات موسى وهارونُ، وكان الخليفةُ بعدهما يوشعُ بنُ نون، وجاؤوا وجاهدوهم الجهادَ المعروفَ في التاريخِ (١)، الذي رَدَّ اللَّهُ فيه الشمسَ ليوشعَ بنِ نون، وفتحوا البلدَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ (جل وعلا) أن يَشْكُرُوا هذه النعمةَ بقولٍ يقولونه، وَفِعْلٍ يَفْعَلُونَهُ، فَبَدَّلُوا القولَ الذي قيل لهم بقولٍ غيرِه، وَبَدَّلُوا - أيضا- الفعلَ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه، وتقريرُ المعنى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ﴾ فَكُلُوا من هذه القريةِ حيث شئتُم. (حيث) كلمةٌ تَدُلُّ على المكانِ كما تدلُّ (حين) على الزمانِ، رُبَّمَا ضُمِّنَتْ معنى الشرطِ، وهي تَعُمُّ، أي: في أَيِّ مكانٍ من أمكنةِ هذه القريةِ شِئْتُمْ (٢).
وقولُه: ﴿رَغَدًا﴾ نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ (٣) أي: (أكلاً رَغَدًا) أي: وَاسِعًا لَذِيذًا لا عناءَ فيه ولا تعبَ. وهذا الذي أُبِيحَ لهم هنا الذي يظهرُ أنه يدخلُ فيه ما طَلَبُوهُ - أي: طلبوا نَبِيَّهُمْ موسى أن يدعوَ اللَّهَ لهم أن يُعْطِيَهُمْ إياه - الآتي في قوله: ﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ [البقرة: آية ٦١]، الظاهرُ أن اللَّهَ لَمَّا قال لهم: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: الآية ٦١] وفتحَ عليهم هذه القريةَ قال لهم: ﴿ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة: الآية ٥٨]
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ٣٢٣).
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٢٨١ - ٢٨٣)، اللسان (مادة: حيث) (١/ ٧٦٥).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٤١٠).
متسعٍ من الأرضِ؛ لأنهم يَزْعُمُونَ أن الجبالَ لاَ تُمَكِّنُهُمْ من الزراعةِ، كما يأتي في قولِه: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ [الرعد: آية ٣١].
[١٤/ب] / على حَدِّ قولِه (١):

لَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
وَقَالَ بعضُ العلماءِ: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ لَكَفَرُوا بالرحمنِ؛ لأنهم ما اقترحوا الآياتِ طَلَبًا للحقِّ، وَلَكِنِ اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا؛ ولذا قال هنا: ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ أصلُ الآيةِ في لغةِ العربِ - قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا (٢) - أن أصلَ الآيةِ بالميزانِ الصرفيِّ أَنَّ وَزْنَهَا: (فَعَلَة) وأن أصلَها (أَيَيَة) فَاؤُهَا همزةٌ، وعينُها ياءٌ، ولامُها ياءٌ، على وزنِ (فَعَلَة) فكانَ فيها موجبُ الإعلالِ في الْحَرْفَيْنِ، أعنِي: الياءين، والقاعدةُ في التصريفِ: أن الأغلبَ أن يكونَ الإعلالُ في الحرفِ الأخيرِ، فلو كانت على الأغلبِ لَقِيلَ: (أَيَاه) وكان المبدلُ (أَلِفًا): (الياء) الأخرى، ولكنه هنا وقعَ الإعلالُ في الياءِ الأُولَى، فأُبْدِلَتْ (ألفًا)، وهذا يوجدُ في كلامِ العربِ، وجاء به القرآنُ، هذا أصلُها في الميزانِ الصرفيِّ.
وهي في لغةِ العربِ (٣): الآيةُ تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ، وفي القرآنِ العظيمِ تُطْلَقُ إِطْلاَقَيْنِ، أما أشهرُ معانِي الآيةِ في لغةِ العربِ: فهو
_________
(١) البيت في ديوان الحماسة (١/ ٢١٥).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٧٣) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ... ﴾ الآية [البقرة: آية ٣٣].
وعلى هذا القول فالملائكة لما أُمروا أن يسجدوا لآدم، أُمر جميع الملائكة، كما دل عليه قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [الحجر: آية ٣٠] واستثنى في جميع السور التي ذكر فيها سجود الملائكة بجميعها كالبقرة، والأعراف، وطه، والحجر، وص، كلها بيّن فيها سجود الملائكة إلا إبليس ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ﴾ [الأعراف: آية ١١] أي: فسجدوا كلهم أجمعون، بدليل قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ [الحجر: آية ٣٠].
إبليس: هو الشيطان اللعين عليه لعائن الله، ومَنْعُه من الصرف لأنه اسم عجمي عَلَم، والعُجْمَة والعلمية يمنعان الصرف.
وقال بعض العلماء: أصل (إبليس) عربي؛ لأنه (إفعيل) من الإبلاس، والإبلاس: القنوط واليأس من رحمة الله، حتى يبقى اليائس من شدة يأسه ساكتاً لا يحير كلاماً، ومنه قوله: ﴿فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: آية ٤٤] ولكنه يشكل على قولهم أنه لو كان عجميّاً؛ لأن العَلَم إذا وُضع على (إفعيل) كان منصرفاً؛ لأنه ليس فيه علتان مانعتان من الصرف.
وأجاب من قال هذا: بأن (إبليس) أصله من (الإبلاس) وهو القنوط واليأس من رحمة الله، ومُنع من الصرف للعلمية وشبه العجمية؛ لأن هذا اللفظ يشبه الألفاظ العجمية، هكذا يقولون، والأول أظهر (١).
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأنعام.
إلى (مهما) إلا أن الضمير المذكر رُوعي به لفظ (مهما) والضمير المؤنث روعي به معنى الآية المبينة لـ (مهما). ومن علامات الاسم عند علماء العربية: رجوع الضمير، فمن علامات أن (مهما) اسم: رجوع الضمير إليها، وقد رجع إليها ضمير مذكر باعتبار اللفظ، وضمير مؤنث باعتبار المعنى، كما جاء ذلك فيها في قول زهير (١):
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ وَلَوْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ
﴿تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ﴾ (من) بيانية. والآية بيان لـ (مهما). أي: من شيء تأتينا به مبنيًا كونه آية.
وفي الآية سؤال: كيف أقروا بأنه آية، وزعموا أنه جاء بها ليسحرهم؟
وأُجيب عن هذا: بأن قولهم: ﴿مِن آيَةٍ﴾ أي: بزعمك ودعواك، لا أنهم يُقرون بذلك.
﴿لِّتَسْحَرَنَا بِهَا﴾ لتصرفنا بها عن ديننا وتخدعنا عما نحن فيه.
﴿فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ بوجه من الوجوه، ولا بحال من الأحوال، ولو أتيت بما أتيت به من الآيات؛ لأن (مهما) عموم شامل يدل على أنه لو جاء بجميع الآيات لكانوا كما قالوا، فلما تمردوا هذا التمرد العظيم، وعاندوا هذا العناد الكبير، ولجوا هذا اللجاج الشديد، عَاقَبَهُم اللهُ مُعَاقَبَات دنيوية بعضها يتبع بعضًا، قال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣] قد تقرر في فن الأصول
_________
(١) البيت في معلقته (شرح القصائد المشهورات ١/ ١٢٥)، البحر المحيط (٤/ ٣٧١)، الدر المصون (٥/ ٤٣٢).
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد صلوات الله وسلامه عليه ﴿تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى﴾ ترى حين يتوفى الملائكة.
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن عامر: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ﴾ بالياء. وقرأه ابن عامر وحده: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ تتوفى الذين كفروا الملائكة﴾ (١).
وتتوفاهم: أصل التوفِّي في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه (٢): أخذ الشَّيْءِ وَافِياً، تقول العرب: «توفيت دَيْنِي»؛ أي: أخذته وافياً. وكان حقيقة عرفية في أخذ الروح من البدن، فَصَارَ التَّوَفِّي حقيقة عُرْفِيَّةً في أخذ الروح وافية كاملة من البدن بحيث لم يبق فيه روح ألبتة.
والملائكة: جمع ملك، والتَّحْقِيقُ عند جماعة من العلماء: أن اشتقاق الملك من الألوكة، والألوكة: الرسالة (٣)؛ لأن لطالب العلم أن يقول: مفرد الملائكة ملك، وجمعه: الملائكة -بالهمزة- فَمِنْ أَيْنَ جاءت هذه الهمزة؟ وما الجالب لها؟
والجواب عن هذا: ما قاله بعض العلماء: أَنَّ أَصْلَ المَلَك: (مَأْلَك) (مَفْعَل) من الأَلُوكَة. والأَلُوكَةُ في لغة العرب: الرسالة. وألكني إليه: احمل إليه مألكتي؛ أي: رِسَالَتِي، ومنه قول أبي ذُؤَيْبٍ الهُذَلِي (٤):
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢١
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٤٦) من سورة الأنعام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٠) من سورة الأنعام.
(٤) السابق.


الصفحة التالية
Icon