وأنه يدخل في ذلك ما طلبوه أيامَ التيهِ من البقولِ والفومِ والعدسِ والبصلِ وما ذُكِرَ معها.
ثم إن الله (جل وعلا) أمرهم بفعلٍ وقولٍ شكرًا لنعمةِ الفتحِ، وهو قولُه: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ أي: ادْخُلُوهُ في حالِ كونِكم سُجَّدًا. والسُّجَّدُ جمع سَاجِدٍ، و (الفاعلُ) إذا كان وصفًا من جموعِ تكسيرِه المعروفةِ - جموعِ الكثرةِ - أن يُجمعَ على (فُعَّل)، كساجدٍ وسُجَّدٍ، وراكعٍ وَرُكَّعٍ (١).
قال بعضُ العلماءِ: هو سجودٌ على الجبهةِ، والمعنى: إذا دخلوا البابَ سَجَدُوا. أي: ادْخُلُوهُ في حالِ كونِكم سُجَّدًا، أي: عندما تدخلونَ تتصفونَ بحالةِ السجودِ.
وقال بعضُ العلماءِ: هو سجودُ ركوعٍ وانحناءٍ تَوَاضُعًا لِلَّهِ وشكرًا على نعمةِ الفتحِ (٢). وقد يُفْهَمُ من هذا أن نعمةَ الفتحِ ينبغي أن تشكرَ بالسجودِ لِلَّهِ (جل وعلا). وَلَمَّا فتحَ النبيُّ - ﷺ - مكةَ صلى الضحى ثمان ركعاتٍ (٣). وكان العلماءُ يَرَوْنَ أنها صلاةُ شكرٍ على ما أَنْعَمَ اللَّهُ عليه به من الفتحِ، واللَّهُ (تعالى) أعلمُ. وهذا معنى قولِه: ﴿ادْخُلُوا الْبَابَ﴾ البابُ: واحدُ الأبوابِ، وَأَلِفُهُ الكائنةُ في موضعِ العينِ مبدلةٌ من واوٍ، بدليلِ تصغيرِه
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٣٩٩).
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ١٠٤).
(٣) البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب: صلاة الضحى في السفر، حديث رقم: (١١٧٦)، (٣/ ٥١)، ومسلم في الصحيح، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى، حديث رقم: (٣٣٦)، (١/ ٤٩٧).
العلامةُ، العربُ يقولون: «آيةُ كذا». معناه: علامةُ كذا، ومنه قولُه تعالى: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: آية ٢٤٨] أي: علامةُ مُلْكِهِ، وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ جاهليٌّ - جاء فيه تفسيرُ الآيةِ بالعلامةِ، حيث قال (١):
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا | لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ |
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ | وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلمُ خَاشِعُ |
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلَنَا | بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ |
هذانِ المعنيانِ للآيةِ في لغةِ العربِ: الآيةُ بمعنَى (العلامةِ)، الآية بمعنى (الجماعةِ).
والآيةُ تُطْلَقُ في القرآنِ العظيمِ إطلاقين (٤): تطلقُ مُرَادًا بها الآيةُ الكونيةُ القدريةُ. والكونيةُ القدريةُ من الآيةِ بمعنَى (العلامةِ) لغةً قولاً
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
(٤) السابق.
وقوله: ﴿لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: آية ١١] لم يسجد مع الملائكة، ثم إن الله (جل وعلا) سأله سؤال توبيخ وتقريع قال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] في (لا) هنا وجهان (١):
أحدهما: أن ﴿مَا مَنَعَكَ﴾ مضمّنة معنى فِعل و (لا) في بابها ليست زائدة، أي: ما ألجأك وأحوجك إلى أن لا تسجد؟ ما المانع الذي ألجأك وأحوجك إلى أن لا تسجد؟! وتضمين الفعل معنى فعل معروف، قال به عامة علماء النحو من البصريين (٢).
وأظهر القولين في هذا: أن (لا) هنا جيء بها لتأكيد النفي؛ لأن (منعك) في معنى الجحود والنفي، وإتيان (لا) زائدة في الكلام الذي فيه معنى الجحد مطّرد (٣)، ذكر الفراء وغيره من علماء العربية أنه مطرد (٤). والدليل على هذا أن خير ما يُفسر به القرآن القرآن، وقد قال تعالى في هذه القصة بعينها في سورة «ص»: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: آية ٧٥] ولم يأت بلفظة (لا)، وخير ما يُفسر به القرآن القرآن، فعلمنا أن لفظة (لا) لتوكيد النفي.
واعلموا أن علماء العربية مطبقون على أن لفظة (لا) تُزاد لتأكيد المعنى وتقويته، أما في الكلام الذي فيه معنى الجحد فلا خلاف بينهم في ذلك، وشواهده في القرآن وأمثلته كثيرة، فمن أمثلته في
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٢٤)، القرطبي (٧/ ١٧٠)، الدر المصون (٥/ ٢٦١ - ٢٦٣)، الأضواء (٢/ ٢٩٣).
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
(٤) معاني القرآن (١/ ٣٧٤).
في الكلام على مسلك الإيماء والتنبيه: أن (الفاء) من حروف التعليل (١)، يقولون: سها فسجد. أي: لِعِلَّة سهوه. سرق فقُطعت يده. أي: لِعِلَّة سرقته، قالوا: ﴿فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ أي: لِعِلَّة عنادهم وضلالهم وكفرهم وعدم إيمانهم بآيات الله. وصيغة الجمع في قوله: ﴿أَرْسَلْنَا﴾ للتعظيم.
﴿عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ﴾ قال بعض العلماء: أصل الطوفان مصدر من: طاف يطوف، كالرجحان، والكفران، والغفران، نُعت به وللعلماء في الطوفان المذكور هنا أقوال متقاربة (٢):
أشهرها وعليه الجمهور أن المراد بالطوفان: الماء الكثير كما صَرَّحَ اللهُ بِذَلِكَ؛ لأنه أهلك قوم نوح بالطوفان، وأن الله أولاً عذبهم بالماء الكثير، فأرسل عليهم مطرًا كثيرًا حتى دخل الماء بيوتهم، وصار الواحد منهم في بيته والماء إلى ترقوتِهِ، وإذا جَلَس غرق في الماء، ومنعهم الماء حراثتهم أن يحرثوا أو يزرعوا أو يعملوا شيئًا، صار يكاد يهلكهم، هذا هو الأظهر في الآية، أن المراد بالطوفان: الماء الكثير بأن أرسل الله عليهم الأمطار الغزيرة حتى فاض الماء على وجه الأرض ودخل بيوتهم. يقول المفسرون والمؤرخون (٣): حتى إن الماء ليبلغ تراقيهم، ومن جلس منهم غرق في الماء، فمنعهم النوم وحالة المعائش والعمل في أرضهم، وكاد يقضي عليهم، وهذا هو القول المشهور الذي عليه أكثر العلماء.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٤٩)، القرطبي (٧/ ٢٦٧).
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٥).
ألِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُولِ | أَعْلَمُهم بِنَواحِي الخَبَرْ |
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: ابن جرير (١٤/ ١٥).