على (بُوَيْب)، وجمعُه على (أبوابٍ) (١).
و ﴿سُجَّدًا﴾ حالٌ من الواوِ في ﴿ادْخُلُوا﴾ (٢)، أي: حالَ كونِكم سُجَّدًا لِلَّهِ شكرًا على نعمةِ الفتحِ. وقال بعضُ العلماءِ: هو سجودُ انحناءٍ وتواضعٍ. ومنهم مَنْ شَذَّ فَزَعَمَ أنه مطلقُ التواضعِ لِلَّهِ. والسجودُ وإن كان في لغةِ العربِ قد يُطْلَقُ على مطلقِ التواضعِ فليس هو المرادَ في الآيةِ.
وقولُه: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ هذا القولُ الذي قيل لهم أيضًا. و ﴿حِطَّةٌ﴾ (فِعْلَةٌ) من (الحطِّ)، و (الحطُّ) معناه الوضعُ، وهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ، ومتعلَّقها محذوفٌ. وتقريرُ المعنى بإيضاح: (وَقُولُوا مَسْأَلَتُنَا لِرَبِّنَا حِطَّةٌ) (٣) أي: غفرانٌ لذنوبنا وَحَطٌّ، أي: وَضْعٌ لأَوْزَارِنَا عن ظهورِنا، فهو لفظٌ عربيٌّ فصيحٌ. هذا هو القولُ الذي قيل لهم، أَمَرَهُمُ اللَّهُ أن يدخلوا سجودًا متواضعين، وأن يقولوا قولاً هو استغفارٌ وطلبٌ لِحَطِّ الذنوبِ. وهذا معنى قوله: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾.
وقوله: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ فيه ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات (٤): قرأه نافعٌ الْمَدَنِيُّ: ﴿يُغفَر لكم خطاياكم﴾ بالياءِ المضمومةِ وفتحِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للمفعولِ. وإنما جازَ تذكيرُه والإتيانُ بالياءِ؛ لأن تأنيثَ الخطايا غيرُ حَقِيقِيٍّ، ولأنه فَصَلَ بينَه وبينَ الفعلِ فاصلٌ، وهو (لكم)، والفصلُ يُبِيحُ تركَ (التاءِ) (٥)
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٥٦.
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٣٧٣).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٤١٠)، الدر المصون (١/ ٣٧٣).
(٤) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٣٠.
(٥) انظر: حجة القراءات ص٩٧، القرطبي (١/ ٤١٤)، الدر المصون (١/ ٣٧٦).
واحدًا، كقولِه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ (١٩٠)﴾ [آل عمران: آية ١٩٠] أي: لعلاماتٍ واضحاتٍ لأصحابِ العقولِ على أن خالقَ هذا الكونِ قادرٌ على كُلِّ شَيْءٍ، وأنه رَبُّ كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، فهذه الآيةُ الكونيةُ القدريةُ في القرآنِ من معنَى الآيةِ بمعنَى العلامةِ في لغةِ العربِ.
الإطلاقُ الثاني للآيةِ في القرآنِ: إطلاقُ الآيةِ بمعنَى الآيةِ الشرعيةِ الدينيةِ، كقولِه: ﴿رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ [الطلاق: آية ١١] وهذه هي الآياتُ الشرعيةُ الدينيةُ كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ. وهذه من الآيةِ أيضًا بمعنَى العلامةِ؛ لأَنَّهَا علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بِهَا؛ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ من الإعجازِ، أو بأن لها علاماتٍ تُعْرَفُ بها مبادئُها ومقاطعُها.
وقال بعضُ أهلِ العلمِ: إن الآيةَ بالمعنَى الشرعيِّ الدينيِّ بمعنَى الجماعةِ؛ لأنها جماعةٌ من كلامِ القرآنِ وحروفِه اشْتَمَلَتْ على بعضٍ مِمَّا تَضَمَّنَهُ القرآنُ (١).
إذا عَرَفْتُمْ هذا فالآيةُ في الآيةِ التي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ هي الآيةُ الكونيةُ القدريةُ، الدالةُ على صدقِ مَنْ جاء بها. أي: علامةٌ خارقةٌ للعادةِ أنكَ رسولٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ (جل وعلا)، كأن يجعلَ الصَّفَا ذَهَبًا، وكأن يُحْيِيَ لنا قُصَيًّا لِنُكَلِّمَهُ، وما جرى مَجْرَى ذلك.
وهذا معنَى قولِه: ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ اللامُ الأُولَى
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من سورة البقرة.
القرآن: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: آية ٢٩] والمعنى: ليعلم أهل الكتاب. فقد جيء بـ (لا) لتوكيد المقام، ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: آية ٦٥] فوربك لا يؤمنون، ﴿قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ [طه: الآيتان ٩٢ - ٩٣] أي: أن تتبعني، ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: آية ٣٤] أي: والسيئة، على أشهر التفسيرين، وقوله جل وعلا: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾ [الأنبياء: آية ٩٥] على أحد القولين، ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٩] على أحد التفسيرين، ﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ﴾ [الأنعام: آية ١٥١] على أحد التفسيرات التي قدمنا في الآية (١). وهذا كثير في كلام العرب، ومنه في كلام العرب قول أبي النجم في رجزه (٢):

فَمَا أَلُومُ البِيْضَ أَلاَّ تَسْخَرَا لمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرا
يعني: لا ألوم البيض أن تسخر. أي: لا ألومها على سخريتها. وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر (٣):
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ دِينَهُمُ وَالأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ
يعني: وعمر، و (لا) زيدت لتوكيد معنى الجحد، وأنْشَدَ الجَوْهَرِيّ لزيادة (لا) في الكلام الذي ليس فيه معنى جحد قول
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
وقال جماعة من علماء التفسير: الطوفان: الجدري. وهو قول غريب، وإن ذكره غير واحد.
وقال بعض العلماء: الطوفان: المُوتان. والمُوتان بضم الميم: موتٌ كثيرٌ يأتي الحيوانات فيقع فيها موت كثير، وربما أُطْلِقَ على الطَّاعون؛ لأنه يموت به موت كثير. وكان بعض علماء السلف يقول: الطوفان: هو كل ما طاف بك لِيُهْلِكَكَ ولا قُدْرَةَ لَكَ عَلَيْهِ (١)، من ذلك قوله تعالى: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩)﴾ [القلم: آية ١٩].
فالحاصل أن أشهر أقوال علماء التفسير: أن المراد بالطوفان هنا: الماء الكثير. وقيل: إنه الجدري. وقيل: المُوتان، وهو موت الحيوانات الكثير، أي: الطاعون. والأظهر هو القول الأول: أنه الماء الكثير الذي دخل بيوتهم ومنعهم من أن يعملوا شيئًا. وبعض علماء التفسير يقولون: مكث عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت. ومنهم من يقول: أربعون يومًا، ومنهم من يقول غير ذلك (٢). فلما شق عليهم وأجهدهم شكوا إلى فرعون، فجاء فرعون إلى موسى وقال له: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ أي: هذا العذاب والله ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٣٤، ١٣٥] فكشفه الله عنهم. قال المفسرون: وأنبتت أرضهم من ذلك الماء أكثر ما كانت تنبته، وجاءهم نعيم، فرجعوا إلى كفرهم، وقالوا: والله إنه لساحر.
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٢)، القرطبي (٧/ ٢٦٨).
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٥، ٦٩)، القرطبي (٧/ ٢٦٨).
وقوله: ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ مقول قول محذوف، أي: ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق.
اختلف العلماء في وقت ذوقهم عذاب الحريق (١)، قال بعض العلماء: هو عند وفاتهم عندما يأخذون أرواحهم يضربونهم بسياط من نار فتشتعل ناراً فيقولون لهم: ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.
وقال بعض العلماء: هي للملائكة الذين قاتلوا في بدر يضربون الكفار، ويأخذون أرواحهم، ويضربونهم بسياط النار فتشتعل في جروحهم فيقولون لهم: ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.
وقالت جماعة من العلماء: هذا يوم القيامة، وممن قال به: الحسن البصري، أي: يضربون وجوههم وأدبارهم الآن عند الاحتضار، ويبشرونهم يوم القيامة بما هو أدهى وأمر من ذلك، وهو عذاب الحريق. وهذا معنى قوله: توفاهم ﴿الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ [الأنفال: الآية ٥٠].
والتحقيق أن هذا ليس خاصّاً بالذين قتلوا من الكفار يوم بدر، بل هو عام، وأن الملائكة تضرب الكفار عند احتضارهم على الوجوه والأدبار، كما جاء مصرحاً به في سورة القتال، وجاء مُشَاراً إِلَيْهِ في الأنْعَام؛ لأن الله قال في الأنعام: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ﴾ [الأنعام: الآية ٩٣] باسطوها إليهم بالضرب -والعياذ بالله- وقال (جل وعلا) في سورة القتال: ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦)﴾ وفي
_________
(١) انظر: القرطبي (٨/ ٢٨).


الصفحة التالية
Icon