كما تَقَدَّمَ (١). وقرأه الشاميُّ ابنُ عامرٍ: ﴿تُغفَرْ لكم خطاياكم﴾ بضمِّ (التاءِ) وفتحِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للمفعولِ. ﴿خَطَاياَكُمْ﴾ نائبٌ عن الفاعلِ في كلتا القراءتين. وقرأَه غيرُهما من القراءِ: ﴿نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ ﴿خَطَاياَكُمْ﴾ في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به، و ﴿نَّغْفِرْ﴾ بكسرِ (الفاءِ) مَبْنِيًّا للفاعلِ. وقراءةُ الجمهورِ أشدُّ انسجامًا بالسياقِ؛ لأن اللَّهَ قال قَبْلَهَا: ﴿قُلْنَا﴾، ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ وقال بَعْدَهَا: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ بصيغةِ التعظيمِ، فقراءةُ الجمهورِ أشدُّ انسجامًا وملاءمةً مع السياقِ من قراءةِ نافعٍ وقراءةِ ابنِ عامرٍ (٢).
و (الخطايا): جمعُ الخطيئةِ، والخطيئةُ: الذنبُ العظيمُ (٣) الذي يَسْتَحِقُّ صاحبُه التنكيلَ، أي: نغفر لكم ذنوبَكم العظيمةَ.
ثم قال (جل وعلا): ﴿وَسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾ للعلماءِ في تفسيرِ المحسنين هنا أقوالٌ (٤)، والحقُّ الذي لا ينبغي العدولُ عنه أن لا يُعْدَلَ في تفسيرِها عن تفسيرِ النبيِّ - ﷺ - وهو قولُه لَمَّا سَأَلَهُ جبريلُ عن الإحسانِ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (٥). يعني: الذين كانوا أشدَّ مراقبةً لله في أعمالهم سيزيدُهم اللَّهُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة.
(٢) انظر: حجة القراءات ص٩٨، القرطبي (١/ ٤١٤).
(٣) انظر: المفردات (مادة: خطأ) ص٢٨٨.
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٤١٥)، البحر المحيط (١/ ٢١٨).
(٥) البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي - ﷺ - عن الإيمان.. حديث رقم: (٥٠)، (١/ ١١٤)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: حديث رقم: (٤٧٧٧)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب: الإيمان والإسلام والإحسان.. حديث رقم: (٩)، (١/ ٣٩).
موطئةٌ للقسمِ، واللامُ في قولِه: ﴿لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ جوابٌ للقسمِ؛ لأَنَّ القسمَ قبلَ الشرطِ، والقاعدةُ المقررةُ في علمِ العربيةِ: أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقسمٌ فالجزاءُ للسابقِ منهما (١). والسابقُ هنا: القَسَمُ. يعنِي: لئن جَاءَتْهُمْ آيةٌ من الآياتِ التي اقْتَرَحُوهَا عليكَ ليؤمنن بها، ويصدقونَ بأنها مِنَ اللَّهِ، وأنها معجزةٌ دالةٌ على أنكَ نَبِيٌّ حَقًّا. فَأَمرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِأَمْرَيْنِ:
أحدُهما: أن يقولَ لهم: إن الآياتِ عند الله، هو الذي يأتِي بها إن شاء، كما قال جل وعلا: ﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (٤)﴾ [الشعراء: آية ٤].
الأَمْرُ الثاني: أنه يقولُ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ فمعنَى قولِه: ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: الآيات التي اقْتَرَحْتُمُوهَا عندَ اللَّهِ وبيدِه، إن شاءَ أَنْزَلَهَا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا، إنما أنا نذيرٌ، وقد جِئْتُكُمْ به من المعجزاتِ ما يُوَضِّحُ الحقَّ، وَيَقْطَعُ الشُّبَهَ، ويثبت لكم ثبوتًا ضروريًّا أني نَبِيٌّ كَرِيمٌ. أما التعنتاتُ والآياتُ المقترحاتُ فهي عندَ اللَّهِ، إن شاءَ أَنْزَلَهَا عليكم فَأَهْلَكَكُمْ إن لم تؤمنوا، وإن شاءَ لم يُنْزِلْهَا عليكم.
وقولُه: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ الإشعارُ في لغةِ العربِ: الإعلامُ (٢)، أي: ما يُعْلِمُكُمْ وَمَا يُدْرِيكُمْ.
وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا البصريَّ أبا عمرٍو: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ بِضَمِّ الراءِ، وَمَنْ يُرَقِّقُ - كَوَرْشٍ - يُرَقِّقُ، ومن يُفَخِّمُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: القرطبي (٧/ ٦٤)، القاموس (مادة: شعر) ص٥٣٣.
رؤبة بن العَجَّاج، أو قول العَجَّاج (١):

فِي بِئْر لاَ حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ شَجَرْ
يعني: (في بئر حور) أي: هلكة، و (لاَ) زائدة. وأنشد الأصمعي لزيادتها في الكلام الذي ليس فيه معنى الجحد (٢) قول ساعدة بن جُؤَيَّةَ الهذلي (٣):
أَفعنك لاَ بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ
والتحقيق أن (لا) زائدة، لا عاطفة على جملة محذُوفَة كما زَعَمَهُ بعضهم، ومن شواهد ذلك قول الشاعر (٤):
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابةٌ وكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لاَ يَتَقَطَّعُ
أي: كاد يتقطع، و (لا) مزيدة في هذا، وهي كذلك في قوله: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾ [البلد: آية ١] لأن المعنى: أقسم بهذا البلد، كما قال: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (٣)﴾ [التين: آية ٣] على أحد الأوجه المعروفة، ومثل هذا كثير في كلام العرب، فقوله: (لا) على وجهين:
أحدهما: أن تكون صلة لتوكيد الكلام، ومن أساليب اللغة العربية زيادة لفظ (لا) لتوكيد الكلام كما بيَّنا الآيات الدالة عليه ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: آية ٢٩] أي: ليعلم أهل الكتاب، ﴿مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ [طه: آية ٩٢] ما منعك أن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٢) البحر المحيط (٤/ ٢٧٣)، الدر المصون (٥/ ٢٦٢).
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.
(٤) السابق.
ثم إن الله بعد الطوفان ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ﴾ سلط الله عليهم الجراد. والتحقيق أن الجراد هو هذا الجراد المعروف الذي يطير الذي تعرفونه. وبعض العلماء يقولون: إن أصله نثرات الحوت. وقد جاء ذلك في حديث عند ابن ماجه من حديث أنس وجابر (رضي الله عنهما) (١). وتسليط الجراد عليهم: أكثر الله عليهم الجراد، قال بعض العلماء: حتى كانوا لا يرون شعاع الشمس من كثرة الجراد، وأنه [كثر عليهم] (٢) وملأ بيوتهم، وأكل أبوابهم ومساميرها، وسقوف البيوت، حتى تساقطت البيوت، وأكل جميع ما عندهم من غلات وثمار وزروع، وكاد يهلكهم.
والجراد هو الحيوان المعروف، وهو يؤكل، يجوز أكله على
_________
(١) وهما في الترمذي في الأطعمة، باب ما جاء في الدعاء على الجراد، حديث رقم (١٨٢٣)، (٤/ ٢٦٩)، وقال: «حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه» اهـ. وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، حديث رقم (٣٢٢١)، (٢/ ١٠٧٣)، والخطيب في تاريخ بغداد (٨/ ٤٧٨، ٤٧٩)، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (٣/ ١٤)، وعقبه بقوله: «هذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ. وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: (٣/ ٦٤ - ٦٥): «هذا إسناد ضعيف» اهـ. وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (٢/ ٢٣٢ - ٢٣٣): «أخرجه ابن ماجه عن هارون به وأسقط والد زياد، والله أعلم» اهـ. كما ذكره الكناني في تنزيه الشريعة (٢/ ٢٥١ - ٢٥٢)، وعزاه للخطيب ثم قال:
«وأخرج الحاكم في تاريخ نيسابور والطبراني عن ابن عمر أن جرادة » وذكر نحوه. كما ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات ص١٥٤، ١٥٥، وضعفه الحافظ في الفتح (٩/ ٦٢١).
(٢) في هذا الموضع كلام غير مفهوم، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
القراءة الأخرى (١): ﴿أَسْرَارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٢٨)﴾ [محمد: الآيات ٢٥ - ٢٨] فَدَلَّتْ آيَةُ القِتَالِ هذه على أنها عامة في كل مَنْ كَرِهَ رضْوَان الله وأحَبَّ سخط الله، فَكُلّ مَنِ اتَّبَعَ ما يسخط الله يأتيه هذا الوعيد الشديد، ومن أعظم الناس نصيباً فيه هؤلاء الذين يأتون الكفرة الفجرة الذين يكرهون القرآن وما أنزل الله، ويقولون لهم: ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ﴾ [محمد: الآية ٢٦] وأحرى إن أطاعوهم في كل الأمر، هؤلاء أكثر الناس نصيباً في ضرب الملائكة عند الاحتضار على الوجوه والأدبار -والعياذ بالله- وهذا معنى قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٠] قال بعض العلماء: الضرب على الوجوه والأدبار أشد وقعاً. وقال بعض العلماء: على القول بأنها في أهل بدر أنهم يضربون وجه المشرك مُقْبِلاً، فإِذَا فَرَّ مُدْبِراً ضَرَبُوا دبره. وقد قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ العموم، وأنها لا تختص بمن قتل في بدر. وهذا معنى قوله: ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾.
قال بعض العلماء: ذوق عذاب الحريق عند الاحتضار؛ لأن المقامِعَ التي يضربونهم بها تلتهب عليهم ناراً.
وقال بعض العلماء: يبشرونهم بالحريق يوم القيامة. ولا مانع من وقوع الكل. هذا معنى قوله: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾. وجواب (لو) في هذه الآية محذوف، وتقديره: لو ترى يا محمد حين يتوفى الملائكةُ الكَفَرَةَ في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدْبَارَهم
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٤٠٩.


الصفحة التالية
Icon