إيمانًا؛ لأن الإنسانَ كُلَّمَا ازدادَ تَقْوَاهُ لله (جل وعلا) زَادَهُ اللَّهُ، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: آية ١٧] معناه: وسنزيدُ المحسنين منكم، أي: الذين هم أشدُّ مراقبةً لِلَّهِ سنزيدهم من الخيرِ والإيمانِ. وقال بعضُ العلماءِ: سنزيدُ في جزاءِ أعمالِ المحسنين؛ لأن العملَ الذي يُرَاقِبُ صاحبُه اللَّهَ قد يكونُ ثوابُه أكثرَ ممن هو أقلُّ منه مُرَاقَبَةً.
ثم قال جل وعلا: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: الآية ٥٩] وفي الكلامِ حذفُ الواوِ وما عَطَفَتْ، وحذف المُتَعَلَّقِ. وتقريرُ المعنى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ بِقَوْلٍ غَيْرِهِ (١)، وبدَّلوا فِعْلاً غيرَ الذي قيلَ لهم بفعلٍ غيرِه. والقولُ الذي قيلَ لهم هو (حِطَّةٌ) فَبَدَّلُوهُ بقولٍ غيرِه، وقالوا: (حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ). وقال بعضُ العلماءِ: قالوا: (حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ) وثبتَ في الصحيحِ (٢) أن القولَ الذي بدَّلوه: (حبةٌ في شعرةٍ). وفي بعضِ رواياتِ الحديثِ (حنطةٌ في شعيرةٍ) (٣). وعلى كُلِّ حالٍ فقد بدَّلوا هذا القولَ الذي قيل لهم بغيرِه، كما بَدَّلُوا الفعلَ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه؛ لأن الفعلَ الذي أُمِرُوا به هو دُخُولُهُمُ البابَ سُجَّدًا، فبدلوه بفعلٍ غيرِه، فَدَخَلُوا يزحفونَ على أسْتَاهِهِمْ، وهذا من كُفْرِهِمْ، عياذًا بالله.
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٣٧٩).
(٢) البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام. حديث رقم: (٢٤٠٣)، (٦/ ٤٣٦)، وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الأحاديث رقم (٤٤٧٩، ٤٦٤١)، ومسلم في الصحيح، كتاب التفسير، حديث رقم: (٣٠١٥)، (٤/ ٢٣١٢).
(٣) انظر: الفتح (٨/ ٣٠٤).
يُفَخِّمُ. وقرأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو في روايةِ الدُّورِيِّ وَالسُّوسِيِّ: ﴿وَمَا يُشْعِرْكُمْ﴾ بسكونِ الراءِ وَرَوَى عنه الدُّورِيُّ: ضَمَّ الراءِ مُخْتَلَسَةً. هذه قراءةُ أَبِي عمرٍو (١)، أما الاختلاسُ فهو للتخفيفِ قَوْلاً وَاحِدًا، وأما إسكانُ الراءِ في قراءةِ أبي عمرٍو هذه ﴿وَمَا يُشْعِرْكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فهو على إسكانِه الراءَ. فالراءُ مُرَقَّقَةٌ؛ لأَنَّ الراءَ الساكنةَ بعد كسرةٍ مُرَقَّقَةٍ بإجماعِ القراءِ وإجماعِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، إلا إذا جاء بعدَها حرفُ استعلاءٍ كما هو مَعْرُوفٌ.
لطالبِ العلمِ أن يقولَ: ما وجهُ قراءةِ أبِي عمرٍو هذه وجَزْمُ مضارعٍ من غيرِ جازمٍ، وأصلُ المضارعِ إذا لم يَدْخُلْ عليه جازمٌ أو ناصبٌ فحكمةُ الرفعِ كما هو معروفٌ؟
والجوابُ عن هذا: أن إسكانَ بعضِ الحروفِ المحركةِ للتخفيفِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ معروفٌ، جاء ذلك في القرآنِ وفي لغةِ العربِ في حرفِ الإعرابِ، وفي غيرِ حرفِ الإعرابِ (٢)، ومثالُه في حرفِ الإعرابِ قولُه هنا: ﴿وما يشعرْكم﴾ الأصلُ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ كقراءةِ الجمهورِ، إلا أن الراءَ سُكِّنَتْ للتخفيفِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ امْرِئِ القيسِ (٣):

فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبْ إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ
_________
(١) انظر: السبعة لابن مجاهد ص٢٦٥، الكشف المكي (١/ ٢٤٠ - ٢٤٢)، إتحاف فضلاء البشر (٢/ ٢٦)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
تتبعني، ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: آية ٣٤] لا تستوي الحسنة والسيئة. إلى غير ما ذكرنا من الآيات، وأبيات العرب التي ذكرنا، ويدل أنها هنا صلة لتوكيد الكلام: أن الله حذفها في (ص) حيث قال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: آية ٧٥]. واختار بعض العلماء - وهو اختيار ابن كثير (١)، وابن جرير (٢) - أن الفعل مُضَمَّن كما يذهب إليه علماء البصرة، وأن (لا) على بابها. والكلام في معنى: ما أحوجك وألجأك إلى أن لا تسجد. وهذا معنى قوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] أي: حين أمرتك.
وهذه الآية الكريمة من أدلة العلماء على أن صيغة (افعل) تأتي للوجوب؛ لأنه قال: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: آية ١١] فلما لم يمتثل إبليس وبَّخَه على ذلك، وقال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] فدل على أن صيغة الأمر لا يجوز خلافها، ولما قال نبي الله موسى لأخيه: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ﴾ [الأعراف: آية ١٤٢] بعد ذلك لما ظن أنه خَالَفه قال: ﴿أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: آية ٩٣] فسمى مخالفة صيغة (افعل) معصية، فدل على أنه يراها للوجوب كما ذكرنا أدلته مراراً (٣)، وهذا معنى قوله: ﴿فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: آية ١١].
واعلم أن العلماء (رضي الله عنهم) اختلفوا في إبليس هل هو من الملائكة أو أصله ليس من الملائكة (٤)؟
_________
(١) تفسير ابن كثير (٢/ ٢٠٣).
(٢) تفسير ابن جرير (١٢/ ٣٢٥، ٣٢٦).
(٣) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأنعام.
(٤) انظر: ابن جرير (١/ ٥٠٢ - ٥٠٨)، القرطبي (١/ ٢٩٤ - ٢٩٥)، ابن كثير (١/ ٧٥)، (٣/ ٨٨ - ٨٩)، مجموع الفتاوى (٤/ ٣٤٦)، البداية والنهاية (١/ ٥٥)، أضواء البيان (٤/ ١١٩ - ١٢١).
التحقيق (١)، كما ثبت في الصحيح عن ابن أبي أوفى قال: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الجَرَادَ» (٢) وفي ابن ماجه: «كانَ أزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَادَيْنَ الجَرَادَ عَلَى الأَطْبَاقِ» (٣).
وعامة العلماء على أن الجراد كالسمك، ميتته حلال، ولم نعلم مخالفًا في هذا إلا مالك بن أنس (رحمه الله) وأصحابه يقول: لا يؤكل الجراد إلا إذا ذُكّي بما يموت به. أي: ولو مات حَتْفَ أنْفِهِ فَهُوَ ميتة لا يؤكل (٤).
واحتج جمهور العلماء بحديث ابن عمر المشهور: «أُحِلَّ لَنَا ميتتانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الميتتانِ: فالسَّمَكُ وَالجَرَادُ، والدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» (٥).
ومالك يقول -وهو صادق-: إن هذا الحديث لم يأتِ من
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٦٨).
(٢) البخاري في الذبائح والصيد، باب أكل الجراد. حديث رقم (٥٤٩٥)، (٩/ ٦٢٠)، ومسلم في الصيد والذبائح، باب إباحة الجراد. حديث رقم (١٩٥٢)، (٣/ ١٥٤٦)، من حديث ابن أبي أوفى رضي الله عنه.
(٣) أخرجه عبد الرزاق (٤/ ٥٣٣)، وابن أبي شيبة (٨//١٣٨)، وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. حديث رقم: (٣٢٢٠) (٢/ ١٠٧٣)، والبيهقي (٩/ ٢٥٨) وانظر: ضعيف ابن ماجه (٦٩١).
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٢٦٩).
(٥) أحمد (٢/ ٩٧)، وابن ماجه في الصيد، باب صيد الحيتان والجراد. حديث رقم (٣٢١٨)، (٢/ ١٠٧٣)، وأخرجه في موضع آخر، حديث رقم (٣٣١٤)، والدارقطني (٤/ ٢٧٢)، وعبد بن حميد (المنتخب) (٨١٨)، والبيهقي (١/ ٢٥٤)، والعقيلي (٢/ ٣٣١)، وابن عدي (١/ ٣٥، ٣٨٨).
وانظر السلسلة الصحيحة (١١١٨)، صحيح ابن ماجه (٢٦٠٧).
مُبَشِّرِينَ لهُمْ بالحريق، لو ترى ذلك الوقت لرأيت أمراً فظيعًا شنيعاً يَجِبُ الحذرُ منه، وجواب (لو) حَذْفُهُ إذا دَلَّ المَقَامُ عليه أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْروفٌ يكثر في القرآن العظيم وفي لسان العرب (١)، ومنه في القرآن العظيم: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)﴾ [التكاثر: الآية ٥] أي: لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التَّكَاثُر حتى زُرْتم المقابر، ونظيره من كَلاَمِ العَرَبِ في حذف جواب (لو) قول الشاعر (٢):
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
أي: لو شيء سواك لرددناه.
وقال جل وعلا: ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾ [الرعد: الآية ٣١] ولم يذكر جواب (لو) وقال بعض العلماء: جوابه: لو أن قرآناً سُيرت به الجبال لكان هذا القرآن على حد قوله (٣):
وَلَوْ طَارَ ذُو حَافِرٍ قَبْلَهَا لَطَارَتْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
وقال بعض العلماء: جواب (لو) المحذوف في آية الرعد ﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ﴾ لو سيرنا الجبال بالقرآن وقطعنا به الأرض لكفرتم بالرحمن. ويدل على هذا التقدير الأخير قوله قبله: ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي﴾ [الرعد: الآية ٣٠]. وهذا معنى قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام، وما سيأتي عند تفسير الآية (٥٩) من سورة التوبة.
(٢) البيت لامرئ القيس وهو في ديوانه ص١٠٠.
(٣) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (١٠٩) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon