وما قاله بعضُ العلماءِ (١): مِنْ أن هذه الآيةَ الكريمةَ يُؤْخَذُ منها عدمُ نقلِ الحديثِ بالمعنى؛ لأن اللَّهَ ذَمَّ مَنْ بَدَّلَ قولاً بقولٍ غيرِه، فيلزمُ أن يكونَ القولُ هو نفسُ مَا أُمِرَ به، لا قولاً غيرَه غيرُ صوابٍ. ويجابُ عنه: بأن القولَ المأمورَ به له حَالَتَانِ: إما أن يكونَ مُتَعَبَّدًا بلفظِه كـ (اللَّهُ أَكْبَرُ) في الصلاةِ، وما جرى مجرَى ذلك من العباداتِ القوليةِ، فمثلُ هذا لا يجوزُ تبديلُه، وَمَنْ بَدَّلَهُ يَلْحَقُهُ من الوعيدِ ما لَحِقَهُمْ بقدرِ ما ارْتُكِبَ في قولِه: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ ولا يجوزُ تبديلُه. أما الذي لم يُتَعَبَّدْ به بلفظِه فلا مانعَ من أن يُبَدَّلَ بلفظٍ يُؤَدِّي معناه إذا لم يكن هناك تفاوتٌ في المعنى. وجماهيرُ العلماءِ من المسلمين قديمًا وحديثًا على جوازِ نقلِ الحديثِ بالمعنى إذا كان ناقلُه بالمعنى عَارِفًا باللسانِ، مُتَبَحِّرًا فيه، لا تَخْفَى عليه النكتُ والتفاوتُ الذي يكونُ بين الألفاظِ، ونَقَلَهُ بحالةٍ ليست أَخْفَى من نصِّ الحديثِ، ولا أظهرَ من نصِّ الحديثِ، فلا يجوزُ نقلُه بلفظٍ أظهرَ منه. قال بعضُ العلماءِ: لأنه قد يعارضُه حديثٌ آخَرُ، والظهورُ من المرجحاتِ بين النصوص المتعارضةِ، فيظن المجتهدُ أن لفظَ الراويِ الظاهرَ الذي بدَّله بلفظٍ هو أقلُّ منه ظهورًا أنه من لفظِ النبيِّ - ﷺ -، فَيُرَجِّحُهُ بهذا الظهورِ على حديثٍ آخَرَ، فيكون استنادُ هذا الترجيحِ مستندًا لتصرفِ الراويِ، وهذا مِمَّا لا ينبغي. وعلى كُلِّ حالٍ فمسألةُ نقلِ الحديثِ بالمعنى مسألةٌ معروفةٌ في الأصولِ (٢)، وفي علومِ الحديثِ (٣)، مَنَعَهَا قومٌ واستدلوا
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤١١ - ٤١٤).
(٢) انظر: البحر المحيط للزركشي (٤/ ٣٥٥ - ٣٦١)، شرح مختصر الروضة (٢/ ٢٤٤).
(٣) انظر: الكفاية للخطيب (١٩٨ - ٢١١)، تدريب الراوي (٢/ ٩٨ - ١٠٢).
فَسُكِّنَ المضارعُ تَخْفِيفًا، وكذلك قد تُسَكِّنُ العربُ حَرْفًا مُتَحَرِّكًا غيرَ حرفِ الإعرابِ تَخْفِيفًا، وعليه قراءةُ حمزةَ (١): ﴿أَرْنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: آية ١٢٨] وقراءةُ حفصٍ (٢): ﴿ويخشى الله وَيَتَّقْه فأولئك هم الفائزون﴾ [النور: آية ٥٢] لأن، «أَرْنَا» أصلُه (أَرِنَا) سُكِّنَ في قراءةِ حمزةَ تَخْفِيفًا، وكذلك في لسانِ العربِ، كقولِ الشاعرِ (٣):

أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللَّهِ نَمْلَؤُهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وكذلك قراءةُ حفصٍ عَنْ عَاصِمٍ: ﴿ويخشى الله ويَتَّقْه﴾ بِسُكُونِ القافِ؛ لأن أصلَها (ويتَّقِه) والقافُ متحركةٌ، سُكِّنَتْ للتخفيفِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٤):
وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللَّهَ مَعْهُ وَرِزْقُ اللَّهِ مُؤْتَابٌ وَغَادِ
وقولُ الراجزِ (٥):
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا وَهَاتِ خُبْزَ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقَا
هذا توجيهُ قراءةِ أَبِي عمرٍو: ﴿وما يُشْعِرْكُم﴾.
وفي قولِه: ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ قراءتانِ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة. ونِسْبَة هذه القراءة لحمزة وَهْم، وإنما قرأ بها ابن كثير من السبعة، وأما حمزة فقرأها بالكسر. انظر: السبعة لابن مجاهد ص١٧٠، المبسوط لابن مهران ص١٣٦.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
(٥) السابق.
فذهبت جماعة كثيرة من السلف إلى أن أصله كان من الملائكة، وأن الله نسخه من ديوان الملائكة فصيّره شيطاناً. قالوا: ويدل على هذا: استثناؤه من الملائكة في جميع السور التي فيها قصة إبليس وآدم، والأصل في الاستثناء الاتصال، ولا يجوز أن يُحمل على الانفصال إلا لدليل يدل عليه.
وقال بعض [أهل] (١) العلم: أصل إبليس لم يكن من الملائكة، ولكنه جنّي خلقه الله من مارج من نار، كان يتعبد مع الملائكة ويعمل بأعمالهم فنُسب إليهم، كالرجل الحليف في القبيلة الذي ليس منها يُنسب إليها وهو ليس في الحقيقة منها. ورجحوا هذا القول بمرجحين:
أحدهما: شهادة الله للملائكة بالعصمة حيث قال: ﴿عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: آية ٢٦] ﴿لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: الآية ٦] وإبليس اللعين عصى الله ما أمره. فدلّ على أنه ليس من العباد المكرمين الذين هم الملائكة، وقال: ﴿لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾ [الأنبياء: آية ٢٧] وهذا اللعين لم يعمل بأمره، فدلّ هذا أنه ليس من الملائكة.
الدليل الثاني: أن الله صرح بأنه من الجن في سورة الكهف حيث قال: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: آية ٥٠] فصرح أنه كان من الجن، وكونه من الجن هو السبب الذي جعله لم يفعل كما فعل الملائكة؛ إذ لو كان من عنصر
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
طريق صحيحة مرفوعة، فجميع طرقه المرفوعة ضعيفة لا تقوم الحجة بشيء منها.
واحتج على المالكية مَنْ خَالَفَهُمْ بأنه جاء من رواية موقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال، وهي طريق صحيحة، وهي موقوفة على ابن عمر، إلا أن لها حكم الرفع؛ لأن طريق سليمان بن بلال صحيحة، وكونها موقوفة على ابن عمر لا يضر؛ لأن لها حكم الرفع، وكل ما هكذا له حكم الرفع؛ لأن من المعلوم أنه لا يُحله إلا هو صلى الله عليه وسلم.
أما المالكية فقالوا: نعم، نحن نعلم طريق سليمان بن بلال هذه، ونعلم أن هذا له حكم الرفع، ولكن كونه له حكم الرفع هذا من صناعة الحديث التي اتفق أهل الحديث عليها، لا من قول الله، ولا من قول رسوله، ونحن يجب علينا أن نتمسك بعموم كلام الله وهو قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: آية ٣] وميتة الجراد داخلة في عموم الميتة، فلا ننصرف عن تحريم الله للميتة إلا بدليل جازم يجب الرجوع إليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كلام العلماء فيه، ووجه اختلاف وجهات نظرهم في ذلك، وهو معروف. وجاء في سنن ابن ماجه من حديث أنس وجابر أن النبي ﷺ دعا على الجراد وقال: «اللَّهُمَّ أَهْلِكْ كِبَارَهُ، وَاقْتُلْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، وَاقْطَعْ دَابِرَهُ، وَخُذْ بَأَسْرَابِهِ عَنْ مَعَائِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ». وأن جابرًا لما سمعه يدعو عليه قال له: كيف تدعو على جند من جند الله؟ وأنه قال له: «هو نثرة حوت» (١).
_________
(١) مضى قريبًا في تفسير هذه الآية.
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: الآيتان ٥٠، ٥١].
قال بعض العلماء: هذا مما يقول لهم الملائكة عند توفيهم إياهم وضربهم وجوههم وأدبارهم، يقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق. ويقولون لهم: ذلك العذاب الفظيع الشديد بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ.
وقال بعض العلماء: هو كلام مُؤْتَنَف، أي: ذلك العذاب الكائن الواقع لكم بسبب ما قدمت أيديكم. جرت العادة في لسان العرب الذي نزل به القرآن أن يُضاف جميع الأعمال إلى الأيدي وإن كان بعضها ليس بأيدي، فإن الشرك الذي يُعذبون عليه محله القلب واللسان واليد، والزنا محله الفرج، وأكل الربا محله البطن، ولكن كل هذا يُنسب إلى الأيدي على الأسلوب العربي المعْرُوف؛ لأنَّ أكْثَرَ ما يزاول الإنسان أعماله بيده فنسب إليه على التغليب ومراعاة الأغلب (١).
والمراد ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ما كسبتم من المعاصي والكفر، سواء كان الذي اجترمته القلوب، أو الألسنة، أو الأيدي، أو غير ذلك. وهذا معنى قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (٥١)﴾ [الأنفال: الآية ٥١].
قال بعض العلماء: المصدر المنسبك من (أن) وصلتها في قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ في محل خفض معطوف على الموصول المجرور (بما) أي: ذلك بسبب الذي قدمته أيديكم،
_________
(١) انظر: ابن عطية (٣/ ٣٠٨)، القاسمي (٤/ ٣٠٨).


الصفحة التالية
Icon