بالحديثِ: أن النبيَّ - ﷺ - لما سَمِعَ الرجلَ قال: «آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ».
ردَّ عليه وقالَ: «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (١). ولا شَكَّ أن اللفظَ الذي قاله النبيُّ - ﷺ - لا يقومُ مقامَه اللفظُ الذي تصرَّف فيه الرَّاوِي؛ لأن «وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» واضحٌ بليغٌ لا تكريرَ فيه؛ لأن النبيَّ - ﷺ - قد يكونُ مُرْسَلاً وغيرَ مُرْسَلٍ، والرسولُ مُرْسَلٌ قَطْعًا، فيكون «رَسُولُكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» تكرارٌ - يعني - لأن «الَّذِي أَرْسَلْتَ» معناهُ يُؤَدِّيهِ «رسولك» أما «نَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» فيكونُ كُلٌّ من الكلمتين عمدةً وتأسيسًا لا لغوًا، والحاصلُ أنه معروفٌ أن الجمهورَ من العلماءِ على جوازِ نقلِ الحديثِ بالمعنَى إذا وَثِقَ الراوي أنه لم يَزِدْ في معناهُ ولم يُنْقِصْ، وأن قومًا منعوا ذلك، وأن الآيةَ لا دليلَ فيها لذلك أَلْبتَّةَ؛ لأنهم إنما بَدَّلُوا قولاً مُنَافِيًا للقولِ الذي قيل لهم في المعنى، والتبديلُ إذا كان مُنَافِيًا في المعنى ممنوعٌ بإجماعِ المسلمين، وليس مما فيه الخلافُ، إنما الخلافُ في تبديلِ الألفاظِ مع بقاءِ المعنى، وهم بدَّلُوا اللفظَ بلفظٍ لا يؤدي معناه، أُمِرُوا بأن يقولوا (حِطَّةٌ)، فقالوا: (حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ)، أو (حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ)!! فالقولُ الذي بدَّلوا به ليس معناه يؤدي معنى القولِ الذي أُمِرُوا به، فكأنهم رفضوه بَتَاتًا، وَعَصَوُا اللَّهَ، وجاؤوا بما لم يُؤْمَرُوا به، لا لَفْظًا ولا معنًى. والفعلُ الذي بدَّلوا به: أنهم أُمِرُوا
_________
(١) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب: فضل من بات على الوضوء، حديث رقم: (٢٤٧)، (١/ ٣٥٧)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث رقم: (٦٣١١)، (٦٣١٣)، (٦٣١٥)، (٧٤٨٨)، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء، باب: ما يقوله عند النوم وأخذ المضجع، حديث رقم: (٢٧١٠)، (٤/ ٢٠٨١).
سبعيتانِ (١): قَرَأَ هذا الحرفَ أبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ وشعبةُ عن عاصمٍ في روايةِ: ﴿وما يشعركم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ بكسرِ ﴿إِنَّها﴾ وياءِ الغيبةِ فِي ﴿يؤمنون﴾: ﴿وما يشعركم إنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ قراءة أَبِي عمرٍو: ﴿وما يُشعِرْكم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: ﴿وما يُشعِرُكُم إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ فاتفقَ ابنُ كثيرٍ وَأَبُو عمرٍو وشعبةُ عن عاصمٍ - في روايةٍ - على كسرِ ﴿إِنَّها﴾ وياءِ الغَيبةِ في قولِه: ﴿يؤمنون﴾.
وقراءةُ أَبِي عمرٍو هذه وابنِ كثيرٍ وروايةِ شعبةَ هي أوضحُ القراءاتِ (٢)، واضحةٌ لاَ إشكالَ في الآيةِ عليها، فمتعلقُ الإشعارِ محذوفٌ (٣)، والمعنَى ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ ما يُدْرِيكُمْ ماذَا يكونُ.
ثُمَّ بَيَّنَ بخبرٍ مؤكدٍ: ﴿إِنَّها إذا جاءت﴾ ﴿إنَّها﴾ أي: الآيةُ المقترحةُ إذا جاءتهم لا يؤمنون. كما قال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ وكما قال جل وعلا: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (١٥)﴾ [الحجر: آية ١٥] وكقولِه: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: آية ١١١] ونحو ذلك من الآياتِ فقراءةُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو وَشُعْبَةَ - في روايةٍ - لا إشكال في الآيةِ عليها، قراءة أبي عمرٍو: {وَمَا يُشْعِرْكُمْ
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٠٠، النشر (٢/ ٢٦١).
(٢) في توجيه هذه القراءات انظر: الموضح لابن أبي مريم (١/ ٤٩٢)، حجة القراءات ص٢٦٥، القرطبي (٧/ ٦٤)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١)، الدر المصون (٥/ ١٠١).
(٣) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠١).
الملائكة وجنس الملائكة لفعل كما فعل الملائكة، فلما بيّن أنه أبى وعصى وتمرد وبين قوله إنه: ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: آية ٥٠] تبين أنه من غير الملائكة، ولم يأت في الوحي دليل أظهر في محل النزاع من آية الكهف هذه حيث صرحت بأن إبليس من الجن، ونفته من الملائكة؛ لأنه لو كان من الملائكة لفعل كما فعل الملائكة.
والذين قالوا: إن جمهور العلماء على أن أصله كان ملكاً، وأنه كان يسمى: عزازيل، وأنه كان قائماً بأمر السماء الدنيا، يقولون: إن الجن قبيلة من الملائكة خُلقوا من النار من بين سائر الملائكة، وهذا خلاف ظاهر القرآن، وإن كانت العرب تُسمي الملائكة جنّاً فتسمية الملائكة جنّاً معروف في كلام العرب، ومنه قول الأعشى يمدح سليمان (١):
وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ المَلائِكِ تِسْعَةً | قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلا أَجْرِ |
وقال بعض المفسرين: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً﴾ [الصافات: آية ١٥٨] قالوا: يعني بالجِنَّة: الملائكة؛ لأنهم يُجنُّون عن العيون فلا تراهم كما لا ترى الجن، وزعموا أن معنى: ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً﴾ [الصافات: آية ١٥٨] هو قولهم: الملائكة بنات الله، هكذا قاله بعض العلماء، وهذا خلافٌ مشهور، وأظهر شيء في محل النزاع آية الكهف هذه التي قالت: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: آية ٥٠] ثم رتب على كونه من الجن بالفاء ﴿فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: آية ٥٠] فدل بمسلك الإيماء
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام.
هكذا ذكروا في سنن ابن ماجه (رحمه الله) عن هذين الصحابيين. وذكر القرطبي في تفسير هذه الآيات (١) أن الجراد إن هجم على زروع الناس اختلف العلماء: هل تجوز مقاتلته ومكافحته؟ وأن أظهر القولين أنه تجوز مكافحته وقتله لِكَفِّ أذَاهُ عَنِ النَّاسِ، وهذا القول هو الذي لا ينبغي العدول عنه لجريه على ظاهر النصوص؛ لأن المسلم إذا تَعَدَّى على أموال الناس لَزِمَ دَفْعُهُ عَنْهَا ولو أدَّى إِلى القِتَال، فكيف بالجراد؟! وهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣].
لما أنهكهم الجراد وكاد يهلكهم جاءوا إلى فرعون وشكوا إليه، فذهب فرعون إلى موسى وقال له: ﴿يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ﴾ يعني الجراد ﴿لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ... ﴾ [الأعراف: آية ١٣٤] إلى آخر القصة.
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥)﴾ [الأعراف: آية ١٣٥] يقول بعض المفسرين: فمكثوا شهرًا في عافية (٢). وبعضهم يقول: سنة. فأرسل الله عليهم القُمَّل، هذا القُمَّل الذي أرسل الله عليهم فيه للعلماء أقوال متقاربة (٣):
كان ابن عباس (رحمه الله) يقول: هو سوس الحنطة. أرسل الله عليهم سوس الحنطة -على قول ابن عباس- فتكدس عليهم، وملأ عليهم بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وكان يدخل بين الواحد وبين ثيابه، فبلغوا منه أذى شديدًا.
_________
(١) القرطبي (٧/ ٢٦٨).
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٦).
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٤)، القرطبي (٧/ ٢٦٩).
وبسبب أن الله لا يَظْلِم، فبِكُفْرِكُمْ وبِعَدَالَةِ رَبِّكُمْ وكَمَالِ إِنْصَافِهِ جاءكم العذاب؛ لأن بهذين السببين يتوجه إليكم العذاب، كونكم اقترفتموه واكْتَسَبْتُمُوهُ بأيديكم، وكون ربكم (جل وعلا) حكماً عدلاً منصفاً، فتعذيبه ومؤاخذته للعاصي، كما أنه يثيب المطيع، فظلمكم وعداوة ربكم كل ذلك اقتضى لكم ما وقع لكم من العذاب والعياذ بالله جل وعلا ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ فيه في هذه الآية الكريمة والآيات المماثلة لها من القرآن إشكال عربي معروف يدور فيه سؤال مشهور على ألسنة العلماء وطلبة العلم، وهو أن يُقال: الله (جل وعلا) في هذه الآية الكريمة نفى المبالغة؛ لأنه قال: ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ﴾ و (ظلاّم) (فَعَّال) و (الفعَّال) صيغة مبالغة، والمقرر في اللغة العربية التي بها نزل القرآن أن نفي المبالغة لا يقتضي نفي أَصْلِ الفِعْلِ من حيث هو (١)، فلو قلت: زيد ليس بقَتَّال للرجال، نفيت عنه المبالغة في القتل، ولا ينافي أنه ربما قتل رجلاً أو رجلين، ولو قلت: زيد -مثلاً- ليس بضرّاب لنسائه. يدل على انتفاء كثرة الضرب عنه، ولا ينافي أنه ربما وقع منه ضرب قليل كما هو معروف، فنفي المبالغة هنا لا يقتضي نفي أصل الفعل من حيث هو، والمقام مقام تنْزِيه، ونفي الأدنى أبلغ مِنْ نَفْيِ الأَعْلَى، فلِمَ عُبّر هنا بصيغة المبالغة ولَم يقل: ليس بظالم. أَو ليس بذي ظلم للعبيد؟!
أجاب العلماء على ذا بأجوبة (٢): قالوا: جرت العادة في القرآن
_________
(١) انظر: الإتقان (٣/ ٢٣٣)، الكليات ٨٨٩.
(٢) انظر: البحر المحيط (٣/ ١٣١)، الدر المصون (٣/ ٥١٥)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن ١٠١، الإتقان (٣/ ٢٣٣)، الكليات ٨٨٩، القاسمي (٤/ ٣٠٩).