بالسجودِ فدخلوا يزحفونَ على أَسْتَاهِهِمْ.
وقولُه: ﴿فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الفاءُ سببيةٌ، وصيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، أي: فبسببُ تبديلِهم القولَ الذي قيلَ لهم بقولٍ غيرِه، والفعلِ الذي قيل لهم بفعلٍ غيرِه أَنْزَلْنَا عليهم، وإنما أظهرَ في محلِّ الإضمارِ قال: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ولم يَقُلْ: (فأنزلنا عليهم) ليُسَجِّلَ عليهم موجبَ هذا العذابِ؛ وأنه الظلمُ؛ ولذا عَدَلَ عن الضميرِ إلى الظاهرِ قال: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ لِيُبَيِّنَ أن هذا الرِّجْزَ مُنَزَّلٌ عليهم بسببِ ظُلْمِهِمْ، والضميرُ لا يُعْطِي هذا، وإن كان معناه يؤدي المعنى في الجملةِ (١). وهذا معنى قوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: ظَلَمُوا أنفسَهم بتبديلِ القولِ بقولٍ غيرِه، والفعلِ بفعلٍ غيرِه.
﴿رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ﴾ الرجزُ: العذابُ، وهذا العذابُ طاعونٌ أنزله اللَّهُ عليهم. قال العلماءُ: أَهْلَكَ اللَّهُ به منهم سَبْعِينَ أَلْفًا (٢).
وقولُه: ﴿بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾ (الباءُ) سببيةٌ، و (ما) مصدريةٌ، أي: بسببِ كونِهم فَاسِقِينَ (٣). والفسقُ (٤) في لغةِ العربِ الخروجُ، ومنه قولُه جل وعلا: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ أي: فخرجَ عن طاعةِ رَبِّهِ، والعربُ تقولُ: (فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ من قِشْرَتِهَا) إذا خَرَجَتْ، و (فَسَقَتِ
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٣٨١).
(٢) انظر: ابن جرير (٢/ ١١٦ - ١١٨).
(٣) انظر: الدر المصون (١/ ٣٨٢).
(٤) انظر: ابن جرير (١/ ٤٠٩)، القرطبي (١/ ٢٤٥)، المفردات (مادة: فسق) ص٦٣٦، الدر المصون (١/ ٢٣٤).
إِنها إذا جاءت لا يؤمنون} وقراءة ابنِ كثيرٍ وشعبةَ عن عاصمٍ - في روايةٍ - ﴿وَمَا يُشْعِرُكم إنها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ وهذه أوضحُ القراءاتِ وأظهرُها معنًى. والمعنَى: ما يشعركم، وما يدريكم عن حقيقةِ الأمرِ الذي سيكونُ لو جاءت الآيةُ المقترحةُ؟ ثم بَيَّنَ بخبرٍ بَاتٍّ أنها إذا جاءت لَنْ يؤمنوا؛ ولذا قال: ﴿إنَّها إذا جاءت﴾ أي: الآيةُ المقترحةُ: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ لأنهم مُتَعَنِّتُونَ مُعَانِدُونَ كَفَرَةٌ.
وقرأ هذا الحرفَ نافعٌ والكسائيُّ وحفصٌ عن عاصمٍ، وشعبةُ عن عاصمٍ - في الروايةِ الأُخْرَى - ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بفتحِ همزةِ: ﴿أَنَّهَا﴾ وياء الغيبةِ في قولِه: ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
وقرأ هذا الحرفَ ابنُ عامرٍ وحمزةُ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكم أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون﴾ بفتحِ همزةِ: ﴿أَنَّهَا﴾ وتاءِ الخطابِ في قولِه: ﴿تؤمنون﴾ فهي ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات، وما عَدَاهَا شَاذٌّ: ﴿إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ ﴿أَنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ ﴿أَنَّها إذا جاءت لا تؤمنون﴾.
أما كسرُ الهمزةِ مع تاءِ الخطابِ في ﴿تؤمنون﴾ فَلَمْ يأتِ في قراءةٍ سبعيةٍ وإن ذَكَرَهُ بعضُ القراءِ عن شعبةَ - أبي بكر - من روايةِ الأعشى (١)، فهو لم يَثْبُتْ عن عاصمٍ في طريقِ شعبةَ.
أما على القراءةِ التي قَدَّمْنَا فمعنَى الآيةِ واضحٌ لا إشكالَ فيه كَمَا بَيَّنَّا.
_________
(١) انظر: المحتسب (١/ ٢٢٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١)، الدر المصون (٥/ ١٠٩).
والتنبيه أن علّة فسقه عن ربه كونه من أصل الجن لا مِنْ أصْلِ الملائكة، هذا أظهر شيء في محل النزاع.
وقد دلّ القرآن على أن إبليس له ذرية، ودَلَّتِ الأحاديث الصحيحة على أنه يرسلها للتضليل، وقد قال جل وعلا: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: آية ٥٠] وجاء في صحيح مسلم (١) أن الشيطان الذي يوسوس للإنسان في صلاته حتى يُشغله عنها اسمه (خِنْزَب) فهو من أولاد إبليس.
واختلف العلماء في الكيفية التي بها كان نسل إبليس، وسُئل الشعبي (رحمه الله) قيل له: هل تزوج إبليس؟ فقال: ذلك عرس ما حضرناه (٢). وزعموا أنه بعد ذلك لما قرأ: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ﴾ [الكهف: آية ٥٠] قال: نعم يمكن أن يكون تزوج، وهذا لا يدل على أنه تزوج، ولم يقم دليل من كتاب ولا سنة على ذريته كيف تناسلت. وكيف جاءت منه ذرية، هل هي من زوجة أو كما يقول بعضهم إن له آلة امرأة وآلة رجل، يُدخل هذا في هذا فتخرج منه بيضات، فتنفلق البيضات عن الشياطين فتنتشر. هكذا يقولونه من شِبْه الإسرائيليات ولم يقم دليل عليه (٣)، والذي دلّ عليه القرآن: أن له ذرية، كما قال: ﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ [الكهف: آية ٥٠] وهذا معنى قوله: ﴿إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: آية ١١].
_________
(١) مسلم، كتاب السلام، باب: التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة، حديث رقم (٢٢٠٣)، (٤/ ١٧٢٨).
(٢) سير أعلام النبلاء (٤/ ٣١٢).
(٣) انظر: أضواء البيان (٤/ ١٢٢).
وقال بعض العلماء: القُمَّل: صغار الدَّبَى، والدَّبَى: صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة.
وكان أبو عبيدة في طائفة من علماء التفسير يقول: القُمَّل هو المعروف بالحمن (١)، ويقال له: الحمنان، وهو نوع من القراد صغير، وأن الله ملأ عليهم الأرض منه. وذكر بعضهم: أن موسى جاء لكثيب أعفر (٢) وضَرَبَهُ بعصاه، فجعله الله قُمَّلاً (٣). وأنه تكدس عليهم فملأ بيوتهم وآنيتهم وأطعمتهم، وامتص دماءهم تحت ثيابهم حتى بلغوا منه غاية الجهد.
والحاصل أن القُمَّل هنا فيه أقوال متقاربة، بعضهم يقول: هو الحمنان المعروف بالحمن، وهو نوع من القردان صغير، وبعضهم يقول: هو صِغار الدَّبى، والدَّبى: الجراد الصغار قبل أن تنبت له أجنحة، وبعضهم يقول: هو البراغيث (٤). هذه أقوال فيه لا يُكذب بعضها بعضًا، وعلى كل حال فهو شيء من خلق الله سلَّطه الله عليهم فعذبهم به، وآذاهم إيذاءً كثيرًا، حتى ضجوا وزعموا أنهم يتوبون، فهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣] لما عذبهم الْقُمَّل -سواء قُلنا: إنه البراغيث، أو قُلنا: إنه الدَّبى، أو قلنا: إنه سوس الحنطة، أو قلنا: إنه الحمن والحمنان، وقال بعضهم: هو حيوانات تُشبه القُراد الكبير لها ريح
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٦)، القرطبي (٧/ ٢٦٩).
(٢) في ابن جرير (١٣/ ٦٤): «فمضى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه... » اهـ.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٤ - ٦٦).
(٤) انظر: هذه الأقوال في المصدر السابق (١٣/ ٥٤ - ٥٧).
أن بعض الآيات قد يكون فيها شبه إجمال وتبينه آيات أُخر، وقد أوضحت آيات أخر أن الله لا يظلم شيئاً، كقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: الآية ٤٠] ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)﴾ [يونس: الآية ٤٤] فالآيات الواضحات بينت هذا وأوضحته غاية الإيضاح.
وقال بعض العلماء: المبالغة هنا لا يقصد بها أصل المبالغة؛ لأن التكثير نظراً إلى كثرة العبيد؛ لأن الظّلم لمّا تَعَلَّقَ بالعبيد وكان العبيد في كثرة هائلة كان الظلم كثيراً جدّاً لكثرة من هو منفي عنهم؛ ولذا كان نفيه نفيه من أصله؛ لأن الكثرة فيه والمبالغة بحسب العبيد الذين يقع عليهم الظلم.
وقال بعض العلماء: - وهي نكتة حسنة - أن هذا العذاب الذي يعذبهم الله به هو عذاب فظيع هائل لا يُقَادر قدره ولا يُماثل مثله، فلو وقع منه ظلماً لكان مبالغاً في غاية الظلم مبالغة عظيمة، فنفى المبالغة بهذا الاعتبار، ومعناها نفي الفعل من أصله. وهذا الوجه حسن جدّاً، إلا أن فيه دقة. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [الأنفال: الآية ٥١].
وقوله (جل وعلا) في هذه الآيات الكريمة: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢)﴾ [الأنفال: الآية ٥٢] الكاف في قوله: ﴿كَدَأْبِِ﴾ في محل رفع خبر مبتدأ محذوف. أي: دأبهم دأب كفار مكة، أبي جهل وأصحابه. دأبهم؛ أي: عادَتهم، ودينهم، وديْدَنهُم كدأب آل فرعون؛ لأن فر عون وقومه كان دأبهم الكفر، وتكذيب الرسل، والتمرد على الله، والكفر بالآيات، وجحودها بعد الاستيقان؛ لأن