الْفَأْرَةُ) إذا خرجت من جُحْرِهَا للإفسادِ. وكونُ الفسقِ يُطْلَقُ على الخروجِ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ (١):

يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا
فقوله: «فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا» أي: خوارجَ عن طريقِ القصدِ إلى طريقٍ آخَرَ. وقال بعضُ العلماءِ (٢): إنما كَرَّرَ لفظَ (الظلمِ) في قولِه: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ لأن هذا الفعلَ الذي هو ظُلْمُهُمْ ذِكرُهُ له أهميةٌ في السياقِ؛ لأنهم ظَلَمُوا في الوقتِ الذي أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم، وَعَصَوْا أمرَ رَبِّهِمْ، ومن عادةِ العربِ إذا كان الأمرُ له أهميةٌ أن تُكَرِّرَهُ، سواء كانت أهميتُه من جهةِ خيرٍ، أو أهميتُه من جهةِ شَرٍّ (٣)، كما قال الشاعرُ (٤):
لَيْتَ الْغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِمًا (٥) كَانَ الْغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ
لأن الغرابَ لَمَّا نَعَبَ ببينَ أَحِبَّتِهِ صارَ الغرابُ له أهميةٌ عندَه فَكَرَّرَ لفظَه، ومنه قولُ الآخَرِ (٦):
لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا
_________
(١) انظر: الكتاب لسيبويه (١/ ٩٤)، الخصائص (٢/ ٤٣٢)، القرطبي (١/ ٢٤٥)، الدر المصون (١/ ٢٣٤).
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤١٦).
(٣) انظر: الإكسير ص٢١٥، بدائع الفوائد (٢/ ٤٧ - ٤٨)، الإتقان (٣/ ٢١٦).
(٤) البيت لجرير، انظر: تفسير ابن جرير (٢/ ٣٩٦)، القرطبي (١/ ٤١٦).
(٥) في القرطبي (دائبا) وهكذا في الدر المصون (١/ ٣٨١).
(٦) البيت لعدي بن زيد، وينسب - أيضا - لأمية بن أبي الصلت، انظر: الكتاب لسيبويه (١/ ٦٢)، الخصائص (٣/ ٥٣)، الخزانة (١/ ١٨٣).
وأما على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ وشعبةَ عن عاصمٍ في روايةِ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (١٠٩)﴾ ففي الآيةِ إشكالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المتبادرُ إلى الأذهانِ أن المعنَى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنونَ حتى ترغبوا في إيمانِهم، وتسألوا النبيَّ - ﷺ - فـ (لا) في هذا المقامِ كأن المتبادرَ منها أن (لا) النافيةَ هنا تَقْلِبُ المعنَى، وأن الأصلَ: وما يدريكم أنها إذا جاءتهم يؤمنونَ، حتى تطلبوا النبيَّ أن يسألَها.
والجوابُ عن هذا الإشكالِ من أَوْجُهٍ متعددةٍ معروفةٍ عندَ العلماءِ (١):
أحدُها: أن الآيةَ لاَ إشكالَ فيها، والمعنَى: اللَّهُ (جل وعلا) عَلِمَ في سابقِ أَزَلِهِ أنهم لو جَاءَتْهُمُ الآياتُ لا يؤمنون، كما دَلَّتْ عليه قراءةُ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ التي بَيَّنَّاهَا الآنَ ﴿إِنَّها إذا جاءت لا يؤمنون﴾ يعني: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ لو جَاءَتْهُمْ؛ لأنه يعلمُ عواقبَ الأمورِ وما تَؤُولُ إليه، وأنتم حيث إنكم بشرٌ لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ. والمعنَى: ما يدريكم، ما يشعركم أنها إذا جاءت لاَ يؤمنون؟ يعني: أنا الذي أعلمُ أنها إذا جاءت لا يؤمنون، وأنتم لا تعلمونَ عواقبَ الأمورِ، ولذلك طَمِعْتُمْ في إيمانِهم، فَسَأَلْتُمُ النبيَّ - ﷺ - أن يدعوَ اللَّهَ أن يأتيَهم بالآيةِ المقترحةِ!! وهذا الوجهُ من التفسيرِ واضحٌ لاَ إشكالَ فيه، واختارَه أبو حيانَ في البحرِ (٢)
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٣٩ - ٤٣)، القرطبي (٧/ ٦٤)، البحر المحيط (٤/ ٢٠١)، الدر المصون (٥/ ١٠٢).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠١).
ثم إنه (جل وعلا) سأله: ما المانع له من السجود؟ قال: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾؟ فأجاب إبليس بقوله: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: آية ١٢] وجواب إبليس هذا يحتمل كلاماً كثيراً لا تسعه بقية هذا الوقت، فنرجو الله (جل وعلا) أن يحفظنا من مكايد إبليس، وأن يؤيسه، ويخيبه منا، اللهم لا تضلنا بإبليس، اللهم إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من همزات الشياطين، ونعوذ بالله أن يحضرنا الشياطين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم...
يقول الله جل وعلا: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (١٢) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٢، ١٣].
تكلّمنا على قوله: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ وقوله (جل وعلا) حكاية عن إبليس: ﴿قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ كأن الله لما سأل إبليس -وهو عالم؛ لأنه (جل وعلا) أعلم بالمُوجِب الذي بسببه امتنع إبليس من السجود- قال له: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾؟ وهو أعلم، فأجاب إبليس -عليه لعائن الله- بما كان يضمره من الكِبْرِ، وكأنه اعْتَرَضَ على رَبِّهِ، وواجه ربه (جل وعلا) بأن تكليفَهُ إياه أمر لا ينبغي ولا يصلح!! فخطَّأ ربه (جل وعلا) سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً!! وجعل ذلك ذريعة له ومبرراً في زعمه الباطل لعدم السجود، قال: ﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ كيف تأمرني أن أسجد لآدم؟ وأنا أفضل من آدم، والفاضل ليس من المعقول أن يُؤمر بالسجود للمفضول، فهذا التكليف ليس واقعاً موقعه!! فهذا قول اللعين لعنه الله!!
منتنة سلطها الله عليهم- قال بعض المفسرين (١): مكث عليهم أيضًا سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال: ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٣٤، ١٣٥] والقمل هذا كان يأتي بعض الناس فيتأذى به كما هو معروف، قال بعضهم: ومنه قول الأعشى (٢):
قَوْمًا يُعالجُ قُمَّلاً أَبْنَاؤُهُمْ وَسَلاَسِلاً أُجُدًا وَبَابًا مُؤْصَدًا
أن هذا القمل يؤذيهم، وقد عرفنا أقوال العلماء في تفسيره، وهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣].
لما رفع الله عنهم القُمَّل وأزاله ولم يبق له أثر مكثوا شهرًا في عافية، كما قال بعضهم، وقال بعضهم غير ذلك (٣)، فأرسل الله عليهم الضفادع، والضفادع جمع ضفدع، وهو الحيوان المعروف، وكان بعضهم (٤) يزعم أن الضفادع كانت بريّة، وأنها لم تكن من حيوانات البحر كما زعموا، فلما عذّب الله بها قوم فرعون صارت تقتحم في قدورهم وهي تفور، وتقتحم في تنانيرهم في شدة حرها، ومنعتهم الطعام، كان الرجل يجلس في الضفادع إلى عنقه، وإذا أراد أن يتكلم بادرته الضفدع فجاءت في فِيه، ولقوا منها العذاب الشديد
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٧).
(٢) ديوان الأعشى ص ٥٤. والأُجد: مُحكمة الربط.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٦٧).
(٤) انظر: السابق (١٣/ ٦٣).
فرعون -لعنه الله- متيقن كل اليقين أن نبي الله موسى صادق، وقد أوضح الله يقينه بذلك في موضعين: أحدهما قوله فيه [في سورة النمل: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً﴾ الثاني: قوله تعالى إخباراً عن قول موسى لفرعون في سورة الإسراء: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً﴾ وهذا كان دأب المكذِّبِين مِنَ الأقْوَام الذين بُعث فيهم الرسل كقوم نوح] (١).
[٦/ب] / وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، كل هؤلاء كانوا في غاية التمرّد والعتو وتكذيب الرسل بعد قيام المعجزات ووضوح الحق. بين الله (جل وعلا) أن كفار قريش دأبهم كدأب أولئك. والدأب في لغة العرب: العادة. فكل من يجري على سنَن مطرد وعادة ووتيرة تقول العرب: هذا دأبه. أي: عادته وديْدَنُهُ الذي يسير عليه دائماً. ومنه قول امْرِئ القيس في إحدى روايتي بيته (٢):
كدَأبكَ من أمَّ الحُويرث قَبْلَها وَجَارَتَها أمَّ الرَّبابِ بمأْسلِ
وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير أبي عمرو في رواية السوسي: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ بتحقيق الهمزة، وقرأه أبو عمرو في رواية السوسي عنه خاصة: ﴿كَدَابِ ءالِ فِرْعَوْنَ﴾ بإبدال الهمزة ألفاً في الموضعين.
والمعنى: دأب هؤلاء الكفرة دأبهم وديدنهم ودينهم مثل دأب آل فرعون في تكذيب الرسل؛ لأن فرعون كلما جاءته آية يقول: {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة تم بها الكلام.
(٢) ديوانه ص١١١.


الصفحة التالية
Icon