لَمَّا كان الموتُ له أهميةٌ في قطعِه الحياةَ كَرَّرَهُ، ونظائرُ هذا كثيرةٌ في كلامِ العربِ، وعلماءُ البلاغةِ يقولون إن إعادةَ قولِه: ﴿ظَلَمُوا﴾ في قوله: ﴿فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ليُسَجَّلَ عليهم الذنبُ الذي بسببِه أنزلَ عليهم العذابَ (١) كما قَدَّمْنَا، والله (تعالى) أعلم.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (٦٨) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَ شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)﴾ [البقرة: الآيات ٦٧ - ٧١].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٦٧)﴾ [البقرة: الآية ٦٧] قَرَأَ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ: ﴿هُزُؤا﴾ بِضَمِّ الزايِ والهمزةِ، وقرأه حمزةُ: ﴿هُزْءًا﴾ وهي لغةُ تميمٍ، وأسدٍ، وقيسٍ، وقرأه حفصُ عن عاصمٍ ﴿هُزُوًا﴾ بإبدالِ الهمزةِ وَاوًا (٢).
ومعنى قولِه جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ كما ذَكَرَهُ المفسرون (٣): أنه قُتِلَ في بَنِي إسرائيلَ قتيلٌ كما يأتي في قولِه: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا﴾ [البقرة: آية ٧٢]،
_________
(١) انظر: تفسير أبي السعود (١/ ١٠٥).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٣٠، الكشف (١/ ٢٤٧).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ١٨٣ - ١٨٩)، ابن كثير (١/ ١٠٨).
والزمخشريُّ في كَشَّافِهِ (١)، وهو أيضًا واضحٌ لاَ إشكالَ فيه، وعليه فالمعنَى: اللَّهُ يعلمُ أنهم لا يؤمنونَ، وأنتم أيها البشرُ ما يدريكم بما عَلِمَ اللَّهُ به من غَيْبِهِ قبلَ أن يقعَ. والمعنَى: لا تعلمونَ أنهم لاَ يؤمنونَ، ولو كُنْتُمْ تعلمونَ أنهم لا يؤمنونَ لَمَا قلتُم للنبيِّ: اسْأَلْ رَبَّكَ أن يجعلَ الصفا ذَهَبًا، طَمَعًا في إيمانِهم. هذا وجهٌ أيضًا لا إشكالَ فيه على قراءةِ نافعٍ والكسائيِّ وحفصٍ عن عاصمٍ، وشعبةَ عنه في روايةٍ.
وكان بعضُ العلماءِ يقول (٢): (لا) هُنَا صِلَةٌ.
ومعنَى قولِهم «صِلَةً» أن يَتَأَدَّبُوا عن لفظِ (زائدة) (٣) وَذَكَرَ كثيرٌ من علماءِ العربيةِ أن لفظةَ «لا» قد تُزَادُ في الكلامِ مقصودًا بها توكيدُ الإيجابِ (٤)، وهي من الأمورِ العكسيةِ؛ لأَنَّ أصلَها النفيُ، وهي ربما أُكِّدَ بها الإيجابُ، كما في قولِه: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾ [البلد: آية ١] فـ (لا) هنا ليست نافيةً؛ لأن اللَّهَ أَقْسَمَ بذلك البلدِ في قولِه: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)﴾ [التين: آية ٣] وقالوا: إن (لا) قد تَأْتِي في الكلامِ صِلَةً مُؤَكِّدةً للثبوتِ، وأن هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُه: ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾ [الأنبياء:
_________
(١) انظر: الكشاف (٢/ ٣٤).
(٢) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤١)، الكشاف (٢/ ٣٤)، القرطبي (٧/ ٦٥)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٢)، الدر المصون (٥/ ١٠٤).
(٣) انظر: البرهان للزركشي (١/ ٣٠٥)، (٣/ ٧٠)، قواعد التفسير (١/ ٣٥٠).
(٤) انظر: البحر المحيط (٨/ ٢١٣)، البرهان للزركشي (٣/ ٧٨ - ٨٢)، فتح القدير (٥/ ١٥٩)، الدر المصون (١٠/ ٢٢٠)، رصف المباني ص ٢٧٣، دفع إيهام الاضطراب ص ٣٢١.
﴿أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ (خير) تُستعمل استعمالين (١):
تستعمل اسماً للخير الذي هو ضد الشر، وكثيراً ما تُستعمل في المال، كقوله: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ [البقرة: آية ١٨٠] أي: مالاً.
وتستعمل صيغة تفضيل، وهو المراد هنا. فقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ﴾ أصله: أنا أَخْيَر منه. أي: أكثر خيراً منه لفضل عُنصري على عُنصره. ولفظة (خير) و (شر) جعلتهما العرب صيغتي تفضيل، وحذفت همزتهما لكثرة الاستعمال، كما قال ابن مالك في الكافية (٢):

وغَالِباً أَغنَاهُم (خَيرٌ) و (شَرّ) عَنْ قَوْلِهم (أخْيَر منه) و (أَشَرّ)
قال إبليس اللعين: أنا خير من آدم، والذي هو الفاضل، والذي هو أكثر فضلاً وخيراً لا ينبغي أن يُهْضَم ويؤمر بالسجود لمن هو دونه، فهذا التكليف ليس واقعاً مَوْقِعَهُ؛ ولذا لا أمتثله!! فتَكَبَّر وتجبَّر، وجَعَلَ تَكْلِيفَ رَبِّه له واقعاً غير موقعه -عليه لعائن الله- فباء بالخيبة والخسران -نعوذ بالله (جل وعلا) - قال إبليس: أنا خير من آدم. ثم بيَّن سبب الخيريَّة فقال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ﴾ [الأعراف: آية ١٢] يعني: أن عنصري أشرف من عنصره؛ لأن النار -في زعمه- أشرف من الطّين؛ لأن النار مضيئة نيرة، طبيعتها الارتفاع، خفيفة غير كثيفة، وأن الطين منسفل كثيف مظلم ليس بمرتفع!! هذا قوله في زَعْمِهِ، وزعم أن الفرع تابع لعنصره في الفضل، فقاس نفسه على عنصره الذي هو النار، وقاس آدم على عنصره الذي هو الطين،
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: خير) ص٣٠١، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
-والعياذ بالله- فلما لقوا منها ذلك كانوا ليس عندهم شيء إلا به الضفادع، لا يرفعون ثوبًا ولا إناء إلا وبه الضفادع، وبيوتهم ملأى منها، والواحد جالس في الضفادع إلى عنقه، تتساقط لهم في قدورهم وأطعمتهم وثنانيرهم، وكادت تهلكهم، فمكثت عليهم -يقولون- سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فشكوا ذلك إلى فرعون، فجاء فرعون موسى فقال: -ayah text-primary">﴿يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٤] إلى آخر ما ذكرنا (١).
والضفادع حيوانات تكون برية وتكون بحرية، والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه أنها لا يجوز أكلها ولا قتلها، وقد ثَبتَ في السنن من حديث صحيح أن النبي ﷺ سأله طبيب في ضفدع يجعلها في دواء، فنهى ﷺ عن قتلها (٢) هذا جاء في السنن في حديث صحيح عن النبي، وما نهى النبي ﷺ عن قتله لا يجوز أكله؛ لأنه لا يوصل إلى أكله إلا بقتله بالذبح، هذا هو التحقيق. فالذين يأكلون الضفادع يرتكبون الحرام الذي لا شك فيه، وظاهر هذا الحديث سواء كانت بريّة أو بحرية، وهو الأظهر، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: ﴿وَالضَّفَادِعَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣].
_________
(١) انظر: المصدر السابق (١٣/ ٥٨ - ٦٩).
(٢) أبو داود في الطب، باب في الأدوية المكروهة، حديث رقم (٣٨٥٣)، (١٠/ ٣٥٢)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث رقم (٥٢٤٧)، والنسائي في الصغرى، كتاب الصيد والذبائح، باب الضفدع، حديث رقم (٤٣٥٥)، (٧/ ٢١٠)، وفي الكبرى، كتاب ما قذفه البحر، باب الضفدع، حديث رقم (٤٨٦٧)، (٣/ ١٦٦)، والبيهقي في الصغرى، كتاب الصيد والذبائح، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكله العرب، حديث رقم (٤٢٣٢)، (٢/ ٤١١)، والطيالسي في المسند ص١٦٣، والطحاوي في المشكل (٢/ ٣١٢ - ٣١٣).
كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (١٣٥)} [الأعراف: الآيتان ١٣٤، ١٣٥] حتى صارحوه في آخر الأمر وقالوا له: ﴿مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: الآية ١٣٢] يعني: دأب هؤلاء الكفرة من قريش ومن سار سيرهم كدأب الكفرة العتاة المتمرِّدين من الأمم الماضية آل فرعون والذين من قبلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقد قدمنا قصصهم مفصلة في سورة الأعراف وغيرها، وهذا معنى قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٢].
ثم فسر دأب آل فرعون ومن قبلهم وبيّن عادتهم، قال: ﴿كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ كفروا بها: جحدوا بها. وآيات الله: ما تتلوه عليهم الرسل من آياته الشرعية الدينية، وما يعاينونه من المعجزات من آياته الكونية القدرية، وهذا معنى قوله: ﴿كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٢] العرب تقول: أخذه الله: إذا عَاقَبَهُ عقاباً شديداً أليماً. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما (رحمهما الله) من حديث أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) أن النبي (صلوات الله وسلامه عليه) قال: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ثم تلا ﷺ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢)﴾ [هود: الآية ١٠٢] (١) ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أي: أهلكهم وعَاقَبَهُم العِقَابَ الشَّدِيد بسبب ذنوبهم. والذنب: هو الجريمة التي يستحق صاحبها النكال. وهذا معنى قوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon