يَزْعُمُونَ أن اسمَ القتيلِ (عاميل) (١). قال بعضُهم: كان له أقرباءُ فقراءُ، وهو غَنِيٌّ، فقتلوه لِيَرِثُوهُ. وقيل: كانت تحتَه امرأةٌ جميلةٌ فَقَتَلَهُ بعضُ الناسِ ليتزوجها. والأولُ أكثرُ قَائِلاً. وعلى كُلِّ حالٍ فالذين قَتَلُوا القتيلَ ادَّعَوْهُ على غيرِهم، وسألوا مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ موسى أن يسألَ اللَّهَ لهم لِيُبَيِّنَ لهم قاتلَ القتيلِ، فأمرهم اللَّهُ (جل وعلا) على لسانِ نَبِيِّهِ أن يذبحوا بقرةً ويضربوا القتيلَ بجزءٍ منها، فيحيا القتيلُ، ويخبرُهم بقاتلِه. وهذا معنى قوله: وَاذْكُرْ ﴿إِذْ قَالَ﴾ أي: حينَ قالَ ﴿مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ لَمَّا ادَّارَؤُوا في القتيلِ وَتَدَافَعُوهُ، كُلٌّ يدفعُ قَتْلَهُ عن نفسِه إلى غيرِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ أي: وَتَضْرِبُوا القتيلَ ببعضِها فَيَحْيَا، فيخبركم عن قاتلِه. وقرأَ هذا الحرفَ جماهيرُ القراءِ: ﴿يَأْمُرُكُمْ﴾ بضمةٍ مشبعةٍ على القياسِ. وقرأه أبو عمرٍو: ﴿يَأْمُرْكُمْ﴾ بإسكانِ الراءِ، وزادَ عنه الدُّورِيُّ باختلاسِ الضمةِ (٢)، وقد قَدَّمْنَا وجهَ ذلك في قراءتِه في ﴿فَتُوبُوا إلى بارِئْكُمْ﴾ (٣).
وقوله: ﴿أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ المصدرُ المنسبكُ من (أن) وَصِلَتِهَا هو متعلَّقُ الأمرِ، وأَصلُ (أَمَرَ) تتعدَّى بالباءِ، والأصلُ: (يَأْمُرُكُمْ بأن تَذْبَحُوا بقرةً) أي: بذبحِ بقرةٍ، وَضَرْبِ القتيلِ بجزءٍ منها، كما عَدَّى الأمرَ بالباءِ في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ [النحل: آية ٩٠]، فالمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ (٤)، وحَذْفُ هذا الحرفِ قياسٌ مُطَّرِدٌ كما عَقَدَهُ في الخلاصةِ بقولِه (٥):
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٤٩)، مفحمات الأقران ص٤٣.
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٤)، البحر المحيط (١/ ٢٤٩).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(٤) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٤٩ - ٢٥٠)، الدر المصون (١/ ٤١٧)، (٤/ ٦٥٦).
(٥) الخلاصة ص٢٨، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٣٤٤).
آية ٩٥] على أحدِ الوجهين (١)، ومنه قولُه عندَهم: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ﴾ [فصلت: آية ٣٤] أي: والسيئةُ، ومنه قولُه عندَهم: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: آية ٦٥] قالوا: الأصلُ: فَوَرَبِّكَ لاَ يؤمنونَ حتى يحكموكَ فيما شَجَرَ بينهم. قالوا: ومنه قولُه: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] قالوا: (لا) هنا صِلَةٌ، بدليل قولِه في (ص): ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: آية ٧٥] بحذفِ (لا).
وكان الفراءُ يقولُ (٢): إن حذفَ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ - أي النفي - هو معروفٌ مطردٌ في كلامِ العربِ، وأن حذفَها في الكلامِ الذي ليس فيه معنَى الجحدِ ليس مَعْرُوفًا مشهورًا في كلامِ العربِ.
والحاصلُ أن زيادةَ لفظِ (لا) في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، - أي: النفي - فهذا مِمَّا لاَ خلافَ فيه، كقولِه: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: آية ٦٥] وقوله: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: آية ١٢] لأن المنعَ مُشَمٌّ معنَى رائحةِ النفيِ، وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أَبِي النَّجْمِ (٣):
_________
(١) انظر: الدر المصون (٨/ ١٩٨).
(٢) عبارة الفراء: «المعنى - والله أعلم - ما منعك أن تسجد. و (أن) في هذا الموضع تصحبها (لا)، وتكون (لا) صلة. كذلك تفعل بما كان في أوله جحد.. » ا. هـ معاني القرآن (١/ ٣٧٤).
(٣) البيت في المحتسب (١/ ١٨١)، الخصائص (٢/ ٢٨٣)، القرطبي (٢/ ١٨٢)، البحر المحيط (١/ ٢٩)، الدر المصون (١/ ٧٣)، والشمط: الشيب، والقفندر: القبيح.
واستَنْتَجَ من ذلك أنه خير من آدم؛ لأن عنصره في زعمه خير من عنصره [ورتَّبَ على ذلك معصية الأمر] (١) الذي هو: اسجدوا لآدم -على إبليس لعنة الله- وأول من قاس قياساً فاسداً وردّ به نصوص الله وأوامره ونواهيه هو إبليس اللعين -عليه لعائن الله- فكل من ردّ نصوص الشرع الواضحة بالقياسات الباطلة عناداً وتكبراً فإمامه إبليس؛ لأنه أول مَنْ رَدَّ النصوص الصريحة بالمقاييس الكاذبة عليه لعنة الله.
وقياس إبليس هذا باطل من جهات عديدة (٢):
الأول منها: أنه مخالف لِنَصِّ أمْرِ رَبِّ العالمين؛ لأن الله يقول: ﴿اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾ [الأعراف: آية ١١] وكل قياس خَالَفَ أمر الله الصريح فهو قياس باطل باطل باطل، وقد تَقَرَّرَ في علم الأصول (٣):
أن كل قياس خالف نَصّاً مِنْ كِتَابٍ أو سنة فهو باطل، ويُقدح فيه بالقادح المسمى (فساد الاعتبار) ومخالفة القياس للنص تُسمى (فساد الاعتبار) وتدُلّ على بطلان القياس، فهذا وَجْهٌ مِنْ أوْجُهِ بطلانه؛ لأنه مخالف للنص الصريح، ولا إلحاق ولا قياس مع وجود النصوص الصريحة.
الثاني: أن إبليس كاذب في أن النار خَيْرٌ مِنَ الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن طبيعة الطين: الرزانة، والتُؤدة، والإصلاح،
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها المعنى.
(٢) انظر: مجموع الفتاوى (١٥/ ٥ - ٦) بدائع الفوائد (٤/ ١٣٩ - ١٤٣)، أضواء البيان (١/ ٧٣).
(٣) انظر: المذكرة في أصول الفقه ص٢٨٥، نثر الورود ص٥٥١.
ولمّا رفع الله عنهم الضفادع، وبقوا في عافية شهرًا أو غير ذلك، وهم راجعون لأشد ما هم فيه من العذاب، وقالوا: تبيّن لنا أن هذا الرجل هو رئيس السحرة وكبيرهم، كما قص الله عنهم في قوله: ﴿إِِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ [طه: آية ٧١] عندما آمن السحرة لرب موسى وهارون، فلما رجعوا إلى كفرهم بعد ذلك أرسل الله عليهم الدم، والدم: هو الدم هذا المعروف الذي تعرفونه، وأصل الدم (دَمَيٌ) بالياء، فهو من الأسماء الثلاثية التي حذفت العرب لامها وعاضتها على العين، والتحقيق أن لامه المحذوفة ياء، خلافًا لمن زعم أنها واو، فهو (دمي) على وزن (فَعَل) (١) وربما ظهرت ياؤه المحذوفة عند التثنية وغيرها، ومن ظهورها عند التثنية قول سحيم بن وثيل الرياحي (٢):
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا | جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ اليَقِينِ |
هَلْ أَنْتِ إِلاَّ أُصْبُعٌ دَمِيتِ | وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتِ |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) البيت للمثقب العبدي، وهو في ديوانه ص٩٩، رصف المباني ص٢٤٢، اللسان (مادة: أخا) ص٣٢، (مادة: دمي) ص١٠١٧، ونسبه بعضهم لعلي بن بدال.
(٣) مضى عند تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام.
﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ﴾ القوة: ضد الضعف، وقد بين (جل وعلا) أن القوة ضد الضعف في قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً... ﴾ الآية [الروم: الآية ٥٤]. وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ﴾ لأن الله (جل وعلا) قوي، هو أقوى من كل شيء، حتى لما قال عاد ما قالوا ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ قال لهم: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت: الآية ١٥].
﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ العقاب: النكال الشديد لأجل الذنب. قال بعض العلماء: سُمِّيَ عقابًا؛ لأنه يأتي عَقِبَ الذَّنْبِ مِنْ أجْلِهِ. وقد بيَّنَّا مراراً أن الله (جل وعلا) في كتابه يُنَوِّهُ بشدة عقابه ﴿شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ﴿شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة: الآية ١٦٥] ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة: الآية ١٧٤] ﴿عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: الآية ٢] ونحو ذلك من تشنيع عذابه وفظاعته، وإن الأمر كذلك؛ لأنه ليس يوجد عذاب هو في غايته شديد فظيع إلا عذاب الله (جل وعلا) ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦)﴾ [الفجر: الآيتان ٢٥، ٢٦] لأن الناس إذا عذبوا المجرمين، والملوك الطغاة البغاة إذا أرادوا أن يعذبوا لا يستطيعون من العذاب إلا قدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا شددوا العذاب على المعذب بقدر ما يميته مات وانتهى الأمر، أما خالق السماوات والأرض (جل وعلا) فإنه يعذبه بالآلاف مما يستوجب الموت وهو لا يموت. ﴿وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ﴾ [إبراهيم: الآية ١٧] وقال جل وعلا: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ﴾ [النساء: الآية ٥٦] ﴿لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا﴾ [فاطر: الآية ٣٦] ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (٧٧)﴾