وَعَدَّ لاَزِمًا بِحَرْفِ جَرٍّ وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلاً وَفِي أَنَّ وَأَنْ يَطَّرِدُ مَعَ أَمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أَنْ يَدُوا
ولطالبِ العلمِ هنا سؤالٌ، وهو أن يقولَ: عرفنا أن المصدرَ المنسبكَ من (أَنْ) وَصِلَتِهَا المجرورَ بالباءِ المحذوفةِ في قولِه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ أي: (يأمركم بأن تذبحوا بقرةً) فهذا المصدرُ بعد حذفِ الباءِ هل محلُّه الجرُّ بالباءِ المحذوفةِ، أو محلُّه النصبُ لَمَّا نُزِعَ الخافضُ؟
الجوابُ: أن جماهيرَ النحويين أنه في محلِّ نصبٍ (١)، وأنه لو عُطِفَ
عليه لَنُصِبَ على اللغةِ الفصحى. وَخَالَفَ في هذا (الأخفشُ) فقال: إن محلَّه الجرُّ. واستدلَّ على أن محله الجرُّ بأنه سُمِعَ عن العربِ خفضُ المعطوفِ عليه في قولِ الشاعرِ (٢):
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ
فَخَفَضَ قولَه: «وَلاَ دَيْنٍ» بالعطفِ على المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها المجرورِ بحرفٍ محذوفٍ. وتقريرُ المعنى: «فَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً» أي: لكونها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ بها أنا طالبه. وأجازَ سيبويه الوجهين، أن محلَّه الكسرُ، والعطفُ عليه بالخفضِ، وأن محله النصبُ، والعطفُ عليه بالنصبِ (٣).
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٤)، تخليص الشواهد وتلخيص الفوائد ص٥١١، الدر المصون (١/ ٢١١ - ٢١٢، ٤١٧).
(٢) وهو الفرزدق، انظر: الكتاب لسيبويه (٣/ ٢٩)، تخليص الشواهد ص٥١١، الدر المصون (١/ ٢١٢).
(٣) انظر: الكتاب (٣/ ٢٨ - ٣٠).
وَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلاَّ تَسْخَراَ لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا
ومنه قولُ الآخَرِ (١):
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمْ وَالأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ
الأصلُ: أبو بكر وعمرُ. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، والتحقيقُ: أن زيادةَ (لا) لتوكيدِ الكلامِ المُثْبَتِ أسلوبٌ عَرَبِيٌّ مسموعٌ كثيرًا في الكلامِ الذي فيه معنَى الجحدِ، وربما جاء في الكلامِ المُثْبَتِ الذي ليسَ فيه معنَى الجحدِ، ومن شواهدِه فيه قولُ ساعدةَ بنِ جؤيةَ الهذليِّ (٢):
أَفَعَنْكَ لاَ بَرْقٌ كَأَنَّ وَمِيضَهُ غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرامٌ مُثْقَبُ
الأصلُ: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ. و (لا) زائدةٌ، والكلامُ مُثْبَتٌ لا نفيَ فيه، ومنه قولُ الآخَرِ، (قالوا عن ابنِ عباسٍ إنه أنشده) (٣):
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ ضَمِيرُ الْقَلْبِ لاَ يَتَقَطَّعُ
قالوا معناه: كادَ يتقطعُ. هذانِ وجهانِ في الآيةِ.
الوجهُ الثالثُ: وقالَ به سيبويه (٤)، واختارَه المفسرُ الكبيرُ
_________
(١) البيت في البحر المحيط (١/ ٢٩)، الدر المصون (١/ ٧٣)، رصف المباني ص ٢٧٣، وفي جميع هذه المصادر: «فعلهم» بدل «دينهم» و «الطيبان» بدل «الأطيبان».
(٢) البيت في البحر المحيط (٤/ ٢٧٣)، الدر المصون (٥/ ٢٦٢)، والغاب: نوع من الشجر، والضرام: النار في الحطب.
(٣) البيت في رصف المباني ص٢٧٤.
(٤) انظر: الكتاب (٣/ ١٢٣).
والجمع، تُودِعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة، وإذا نظرت إلى البساتين المغروسة في طين طيب ووجدت ما فيها من أنواع الثمار الجنية، والروائح، والأزهار، والثمار عرفت قيمة الطين، أما النار فطبيعتها الطيش، والخفة، والتفريق، والإفساد، فكلما وضعت شيئاً فيها فرَّقته وفسَّدته، وطبيعتها الطيش والخفة، يطير الشرر من هنا فيحرق ما هناك، ثم يطير الشرر من هناك فيحرق ما وراءه، والذي طبيعته الطيش والخِفَّة والإفساد والتفريق لا يكون خيراً من الذي طبيعته التؤدة والرزانة والجمع والإصلاح، تودعه الحبة فيعطيكها سنبلة، وتودعه النواة فيعطيكها نخلة!! فالطين خير من النار بأضعاف؛ ولذا غلب على إبليس عنصره وهو الطيش والخفة، فطاش وتمرد على ربه، وخسر الخسران الأبدي، وغلب على آدم عنصره الطيني فلما وقع في الزلة رجع إلى السكينة والتؤدة والتواضع والاستغفار لربه حتى غفر له.
الثالث: أنَّا لو سلمنا تسليماً جَدَلِيّاً أن النار خير من الطين، فَشَرَفُ الأصل لا يدل على شرف الفَرْعِ، فكم من أصل شريف وفرعه وضيع، وكم من أصْلٍ وَضِيع وفَرْعُهُ رَفِيع.
لَئِنْ فَخِرْتَ بَآبَاءٍ لهُمْ شَرَفٌ قُلْنَا صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا (١)
فكم من أصل رفيع وفرعه وضيع!!
واعلم أن العلماء في هذا المحل يعيبون القياس، ويذمون الرأي، ويقولون: إنَّ مَنْ قَاسَ فقد اتبع إبليس؛ لأنه أول مَنْ رَدّ
_________
(١) البيت لابن الرومي، وهو في ديوانه (٢/ ٣٠٥)، وشرح ديوان المتنبي للعكبري (٤/ ١٤٥).
وكذلك تظهر في المضارع، ومنه قوله (١):
وَلَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا
ومعنى: (تَدْمَى) أصله: (تَدْمَيُ) (تَفْعَلُ) أُبدلت الياء ألفًا لسبق الفتحة قبلها كما هو معروف، هذا أصل الدم.
ومعنى تعذيبهم بالدم (٢): أنهم كانوا كلما أخذوا الماء ليشربوا فإذا ذلك الماء دمٌ أحمر قانٍ عبيط، ليس لهم ماء، فإذا صبوا من أوعيتهم ماء فإذا ذلك الماء دم، وإذا استقوا من الأنهار فإذا الماء الذي استقوا منها دم، وإذا استقوا من الآبار فإذا هو دم.
يذكرون أن فرعون كان يجمع القبطي والإسرائيلي، والإسرائيلي يشرب الماء من إناء واحد فما أخذ منه الإسرائيلي فهو ماء، وما أخذه القبطي يكون دمًا، حتى إنهم زعموا أن القبط لما أضرّ بهم العطش؛ لأن جميع مياههم صارت دمًا، وصار كل ماء استقوه دمًا عبيطًا، أن القبطية كانت تقول لجارتها الإسرائيلية: اجعلي الماء في فيك ومُجيه في فيّ لأتبرد به، فإذا مَجَّتْه في فيْها نزل من فم الإسرائيلية ماء، فإذا وصل فم القبطية إذا هو دم عبيط!! هكذا يقولون (٣).
والمفسرون يقولون: إن هذا الذي وقع كله للقبطيين لم يقع منه شيء للإسرائيليين، فلم يدخل الماء بيوتهم، ولم يأتهم القمل، ولم تأتهم الضفادع، ولم يأتهم الدم كما يقولون. والله تعالى أعلم.
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٨ - ٦٨).
(٣) انظر المصدر السابق (١٣/ ٦٤).
[الزخرف: الآية ٧٧] فهذا العذاب الذي لا يقطعه الموت ولا غيره هو الذي يُخاف منه وُيحذر منه، وهو الشديد بمعنى الكلمة، فعلى كل عاقل أن يَتَحَفَّظ منه ويتحرز منه في دار الدنيا مع إمكان الفرصة قبل أن يفوت الأوان ويندم حيث لا ينفع الندم، وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال: الآية ٥٢].
ثم قال جل وعلا: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٣] الفعل المضارع منصوب بـ (أن) بعد (حتى)، و (حتى) حرف جر بمعنى الغاية. والأصل: إلى أن يغيروا؛ أي: إلى تغييرهم ما بأنفسهم، فهو غاية ذلك المذكور مما أنزل الله بهذه الأمم من المثلات، وما أنزل بكفار مَكَّةَ من العذاب يوم بَدْر والقتل والأسر متصلاً بِعَذَابِ الآخِرَةِ الَّذِي لاَ ينقطع بسبب أن الله جل وعلا ﴿لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً﴾ (يكن) مضارع كان يكون، وحذف النون في الفِعْل المضارع معروف بقياس مطَّرِدٌ نطقت به العرب كذلك، سواء كان بعده (أل) أو لم تكن بعده (أل) كما هو معروف ﴿لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ﴾ نعمة: مفعول به لاسم الفاعل. والنعمة: مصدر بمعنى الإنعام، وهو ما ينعم الله ويتفضل به على خلقه. أنعم بها ﴿عَلَى قَوْمٍ﴾ أي: جماعة من الناس كقريش وغيرهم من الأمم ﴿حَتَّى يُغَيِّرُواْ﴾ والمعنى: أن عدم تغييره للنعمة مُغَيّا بغاية، تلك الغاية هي أن يغيروا ما بأنفسهم، فإذا غَيَّرُوا ما بأنفسهم بأن ارتكبوا سوءاً يَسْتَوْجِبُ العَذَاب والغضب غيرنا النعم بسبب تغييرهم إياهم.
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن يجب الاعتبار بها، وأن الإنسان لا يتسبب في تغيير نعمة الله عنه بتغييره ما في نفسه، بل يدوم


الصفحة التالية
Icon