وأجابَ الجمهورُ عن البيتِ الذي أورده الأخفشُ بأن الخفضَ فيه مِنْ عَطْفِ التوهمِ، وعطفُ التوهمِ يَكْفِي فيه مطلقُ تَوَهُّمِ جوازِ الخفضِ. وعطفُ التوهمِ مسموعٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه قولُ زُهَيْرٍ (١):
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى... وَلاَ سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا
فالروايةُ نصبُ «مدْرِك» وخفضُ «سابقٍ»، والمخفوضُ معطوفٌ على المنصوبِ، وهو عطفُ تَوَهُّمٍ. أعني توهمَ (الباء) في خبرِ (ليس)؛ لأن (بَدَا لي أني لستُ مدركَ ما مَضَى) يجوزُ فيه: لستُ بِمُدْرِكٍ وَلاَ سَابِقٍ، كما قال (٢):
وَبَعْدَ (مَا) و (لَيْسَ) جَرَّ (الْبَا) الْخَبَرْ...........
فَتَوَهَّمُوا (الباءَ) لمطلقِ الجوازِ، وَعَطَفُوا عليه خفضًا عطفَ تَوَهُّمٍ، ونظيرُه قولُ الآخَرِ (٣):
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً... وَلاَ نَاعِبٍ إِلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
بخفضِ (نَاعِبٍ) عَطْفًا على (مُصْلِحِينَ)، لِتَوَهُّمِ جوازِ دخولِ الباءِ. قالوا: مِنْ ذَلِكَ:
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ.......
لِتَوَهُّمِ اللاَّمِ.
_________
(١) الكتاب لسيبويه (٣/ ٢٩)، تخليص الشواهد ص٥١٢.
(٢) هذا الشطر الأول من أحد أبيات الخلاصة، وشطره الثاني:
................ وبعد لا ونفي كان قد يُجر
انظر: الخلاصة ص٢٠، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ٢٠٥).
(٣) البيت للفرزدق، وهو في الكتاب لسيبويه (٣/ ٢٩)، الخصائص (٢/ ٣٥٤).
ابنُ جريرٍ (١): أن (أن) هنا في هذه الآيةِ معناها (لَعَلَّ) ومعروفٌ في كلامِ العربِ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ: أن (لعل) يقال فيها: (لأَنَّ) ويقال فيها: (أنَّ) كما هو معروفٌ، ففي (لعل) لغاتٍ عديدةٍ، منها: (لأن) ومنها: (أن) كما هو معروفٌ، وسُمِعَ بالإطباقِ عن العربِ: «اذْهَبْ إلى السوقِ أَنَّكَ تشتري لنا شيئًا». معناه: لَعَلَّكَ تشتري لنا شيئًا. وهذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، ومنه قولُ امرِئِ القيسِ (٢):
عُوْجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأَنَّنَا | نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خَذَامِ |
قال ابنُ جريرٍ: ومنه قولُ عَدِيِّ بْنِ زيدٍ حيث قال (٣):
أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِي | إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ |
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَزْلاً لأَنَّنِي | أَرَى مَا تَرَيْنَ أَوْ فَقِيرًا مُخَلَّدَا |
(١) انظر: تفسير ابن جرير (١٢/ ٤٣)، وانظر: الكشاف (٢/ ٣٤)، القرطبي (٧/ ٦٤)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٢)، الدر المصون (٥/ ١٠٢).
(٢) ديوان امرئ القيس ص١٥٦، الكشاف (٢/ ٣٤)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٢)، مشاهد الإنصاف ص١١٣، (ملحق بالكشاف ج٤)، والعَوج: عطف رأس البعير بالزمام. والمُحيل: الذي حال وتغير عن صفة الجِدَّة إلى صفة البِلَى، وابن خذام يقال إنه أول من بكى الديار من شعراء العرب.
ويقال له: ابن خدام، وابن خذام، وابن حذام.
(٣) البيت في ابن جرير (١٢/ ٤١)، القرطبي (٧/ ٦٤).
(٤) البيت في ابن جرير (١٢/ ٤٢)، القرطبي (٧/ ٦٤)، وفيهما: أو بخيلاً. وانظر: تعليق محمود شاكر على ابن جرير (٣/ ٧٨)، (١٢/ ٤٢).
النصوص بالقياس. وعن ابن سيرين رحمه الله: ما عُبدت الشمس إلا بالقياس (١). ويكثر في كلام السلف ذَمّ الرَّأْيِ والقِيَاسِ. ومن أشنع من يحمل على المجتهدين في القياس: الظاهرية، وبالأخص أبو محمد بن حزم -عفا الله عنا وعنه- فإنه حمل على أئمة الهدى -رحمهم الله- وشنع عليهم تشنيعاً عظيماً، وسَخِرَ منهم سخرية لا تليق به ولا بهم، وجزم بأن كل من اجتهد بشيء لم يكن منصوصاً في كتاب الله أو سنة نبيه ﷺ بأنه ضال، وأنه مُشَرِّع!! وحمل على الأئمة وسَخِرَ من قياساتهم، وجاء بقياسات كثيرة للأئمة وسَفَّهَهَا وسخر من أهلها، فتارة يسخر من أبي حنيفة - رحمه الله - وتارة من مالك، وتارة من أحمد، وتارة مِنَ الشَّافِعِي، لم يسلم منه أحد منهم في قياساتهم!! ومن عرف الحق عرف أن الأئمة -رحمهم الله- أنهم أولى بالصواب من ابن حزم، وأن ما شنع عليهم فهم أولى بالصواب منه، وأنه هو حمل عليهم وهم أوْلَى بالخير منه، وأعلم بالدين منه، وأعمق فهماً بنصوص الكتاب والسنة منه، وهذا باب كثير، فابن حزم يقول: لا يجوز اجتهادٌ كائناً ما كان، ولا يجوز أن يُتكلم في حكم إلا تبعاً لنص من كتاب أو سنة، أما من جاء بشيء لم يكن منصوصاً في الكتاب ولا السنة فهو مُشَرِّع ضال، ويزعم أن ما ألحَقَهُ الأئمة من الأحكام المسكوت عنها واستنبطوها من المنطوقات أن كل ذلك ضلال، ويستدل بعشرات الآيات، إن لم تكن مئات الآيات فلا أقل من عشرات الآيات (٢). يقول: الله قال: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ [الأعراف: آية ٣] والمقاييس لم تنزل علينا
_________
(١) انظر: إعلام الموقعين (١/ ٢٥٤).
(٢) انظر: الإحكام ص١٠٥٥، فما بعدها.
قالوا: زعموا أن فرعون -قبّحه الله- أضرّ به العطش، وعطش عطشًا شديدًا؛ لأنه صار كلما استقى ماء فإذا هو دم عبيط، وأنه اضطر إلى مَصِّ مِيَاهِ الشَّجَرِ التي تكون في الشجر، قالوا: فإذا مصّ ماء الشجرة فوصل فاه فإذا هو دم - والعياذ بالله تعالى - قالوا: مكث عليهم الدم سبعة أيام، من السبت إلى السبت، فلما تأذوا به كثيرًا شكوا إلى فرعون، وجاء فرعون موسى وقال: الآن حُق لنا أن نتوب التوبة النصوح فـ ﴿ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٤] فلما كشفه عنهم رجعوا إلى أخبث كفرهم وأشده، وهذا من اللجاج؛ ولأجل هذا - اللجاج والكفر وإخلاف الوعد - غضب موسى عليهم غضبًا شديدًا، ودعا رَبَّهُ ذلك الدعاء الحاد العظيم حيث ذكره الله في سورة يونس في قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾ [يونس: آية ٨٨] وفي قراءة أخرى (١): ﴿لِيَضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾ [يونس: الآيتان ٨٨، ٨٩]؛ لأن [هارون] (٢) قال: آمين. والمُؤَمِّن أحد الداعيين. وهذا معنى قوله: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ﴾ [الأعراف: آية ١٣٣] (آيات) حال. أرسلنا عليهم هذه الأشياء في حال كونها آيات. أي: علامات ودلالات واضحات لا شك في الحق معها.
وقوله: ﴿مُّفَصَّلاَتٍ﴾ قال بعض العلماء: ﴿مُّفَصَّلاَتٍ﴾ أي: بينات
_________
(١) مضت عند تفسير الآية (٥٥) من هذه السورة.
(٢) في الأصل: «موسى». وهو سبق لسان.
على طاعة الله وتقواه؛ لأنه إذا تنكر لربه قد يغير نعمته عنه وينقله من النعمة إلى النقمة، ومن السلامة إلى العذاب.
وفي هذه الآية إشكال معروف، وسؤال مشهور، وهو أن يُقال: إن هؤلاء الكفرة كل أحوالهم خبيثة وخسيسة، فما غيروا الكفر إلا إلى كفر، فهم كانوا كفرة ولم يكونوا في حالة محمودة حتى يكونوا غيروا ما بأنفسهم، فالذي كانوا فيه خبيث خسيس، والذي غيروا به خبيث خسيس، فبأي موجب كانت تتمادى عليهم النعمة الأولى، وبأي سبب كانوا يدخلون في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ وهذا الإشكال قوي، ووجهه واضح جدّاً، ولا يمكن أن يخرج من الآية لأن الآية نازلة في الكفار، فرعون ومن سار على سيره، وكفار مكة الذين شُبّه دأبهم بِدَأبِهِ، والمقرر في علم الأصول: أن صورة السبب لا يمكن أن تُخرج من العام بمخصص، وهو التحقيق إن شاء الله (١). فبان استحكام هذا الإشكال وقوته.
وأجاب بعض العلماء (٢) عن هذا بأنهم كانوا في نِعْمَةٍ مِنَ الله؛ لأَنَّهُمْ لم يأتِهِمْ رسول، وكانوا معذورين بالفترة، فأرسل الله إليهم الرسل، وَبَيَّنَ لهم المعجزات، وأقام عليهم الحجج، فصاروا يحادون الله، ويكذبون رسله، ويعلمون الحق ويجحدونه عناداً وطغياناً وتكبرًا على ربهم، فانتقلوا من حال سيئة إلى حال أسْوَأ منها بأضعاف، فلما انتقلوا إلى حال أسوأ كانوا غيروا فَغَيَّر الله ما بهم لما غيروا ما بأنفسهم بانْتِقَالِهِمْ من سيئ إلى أسوأ، وهذا معنى قوله:
_________
(١) انظر: نثر الورود (١/ ٣١٣)، المذكرة في أصول الفقه ص٢١٠.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٥٠٧).