يهجو العباسَ بنَ مِرْدَاس، وقيل: القائلُ علقمةُ بنُ عوفٍ (١):
لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ جَارَكَ فَارِضًا | تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ |
وَلَمْ تُعْطِهِ بِكْرًا فَيَرْضَى سَمِينَةً | فَكَيْفَ تُجَازَى بِالْمَوَدَّةِ وَالْفَضْلِ |
يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضٍ | لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ |
شَيَّبَ أَصْدَاغِي فَرَأْسِي أَبْيَضُ | مَحَافِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ |
وقوله: ﴿وَلاَ بِكْرٌ﴾ البكرُ: هي التي لم يَفْتَحِلْهَا الفَحْلُ لِصِغَرِهَا (٤).
وقال بعضُ العلماءِ: البكرُ: التي وَلَدَتْ مَرَّةً (٥)، ولكن
_________
(١) القرطبي (١/ ٤٤٨)، اللسان (مادة: فرض) (٢/ ١٠٧٨)، البحر المحيط (١/ ٢٤٨)، الدر المصون (١/ ٤٢٠).
(٢) انظر: الطبري (٢/ ١٩٠)، اللسان (مادة: فرض) (٢/ ١٠٧٨)، القرطبي (١/ ٤٤٨).
(٣) انظر: اللسان (مادة: فرض) (٢/ ١٠٧٨)، القرطبي (١/ ٤٤٨)، الدر المصون (١/ ٤٢٠).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٩)، الدر المصون (١/ ٤٢١).
(٥) نفس المصدرين، أدب الكاتب ص١٥٩.
للمسلمينَ. وهذا معنَى قولِه: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: آية ١٠٩].
﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)﴾ [الأنعام: آية١١٠].
في هذه الآيةِ الكريمةِ كلامٌ كثيرٌ لعلماءِ التفسيرِ، وأقوالٌ كثيرةٌ (١)، أظهرُها وَأَوْلاَهَا بالصوابِ، وهو الحقُّ - إن شاء الله - الذي دَلَّتْ عليه آياتٌ كثيرةٌ من كتابِ اللَّهِ، وخيرُ ما يُفسَّرُ به القرآنُ القرآنُ: أن الكفارَ لَمَّا أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جهدَ أيمانِهم لئن جاءهم بعضُ الآياتِ المقترحاتِ ليؤمنن بها، وَبَيَّنَ اللَّهُ أنهم لا يؤمنونَ، كما هو واضحٌ في قراءةِ أبي عمرٍو وابنِ كثيرٍ وشعبةَ في روايةٍ: ﴿إنها إذا جاءت﴾ بِخَبَرٍ مؤكدٍ بـ (إن) بَاتٍّ أنهم لا يؤمنونَ، بَيَّنَ سببَ عدمِ هذا الإيمانِ، كأنه قال: إني قلتُ: إنهم لا يؤمنونَ، والسببُ في ذلك: أنهم أولُ مرةٍ قابلوا رُسُلِي بالكفرِ والعنادِ والتعنتِ فَطَمَسْتُ على قلوبِهم وخذلتُهم وطبعتُ عليها.
وهذا معنَى قولِه: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ فلاَ تَعْقِلُ حقًّا ﴿وَأَبْصَارَهُمْ﴾ فلا تبصرُ حَقًّا.
فقولُه: ﴿كَمَا﴾ هنا تعليليةٌ (٢): أي: لأنهم لم يؤمنوا بالقرآنِ أولَ مرةٍ؛ فَلأَجْلِ ما سبقَ منهم من العنادِ والتعنتِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، وَقَلَّبْنَا أبصارَهم وقلوبَهم، وَاللَّهُ (جل وعلا) مقلبُ القلوبِ،
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤٤)، ابن كثير (٢/ ١٦٥)، شفاء العليل ص٩٩ - ١٠٠، بدائع الفوائد (٣/ ١٨٠).
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠٣)، شفاء العليل ص٩٩.
النظر فيها والاجتهاد، وَمَنْ نَظَر إلى جمود ابن حزم علم أنه على غير هدى، وأن الهدى مع الأئمة رحمهم الله.
والذي يجب اعتقاده في الأئمة -رحمهم الله- كالإمام مالك، وأبي حنيفة، والإمام أحمد، والشافعي -رحمة الله على الجميع- أن ما اجتهدوا فيه أكثره أصابوا فيه، فلهم أجر اجتهادهم وأجر إصابتهم، وأنه لا يخلو أحدٌ من خطأ، فلا بد أن يكون بعضهم أخطأ فيما اجتهد فيه، فما أخطئوا فيه فَهُمْ مَأْجُورُونَ لاجتهادهم، معذورون في خطئهم -رحمهم الله- والصحابة كانوا يجتهدون كما كان يجتهد الأئمة -رحمهم الله- وسنلمُّ بأطراف من هذا؛ لأن هذا باب واسع لو تَتَبَّعْنَاهُ لمكثنا فيه زمناً طويلاً! ولكن نُلم إلمامات بقدر الكفاية:
أولاً: ليعلم السامعون أن ما كل ما سكت عنه الوحي يمكن أن يكون عفواً، بل الوحي يسكت عن أشياء لا بد ألبتة من حَلِّها. ومن أمثلة ذلك: مسألة العَوْل، فكما قال الفَرَضِيُّون: إن أول عَوْل نزل في أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه (١)
- ماتت امرأة وتركت زوجها وأختيها، فجاء زوجها وأختاها إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال الزوج: يا أمير المؤمنين: هذه تركة زوجتي، ولم تترك ولداً، والله يقول في محكم كتابه:
_________
(١) أخرجه البيهقي (٦/ ٢٥٣)، والحاكم (٤/ ٣٤٠)، وقال: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» اهـ وابن حزم في المحلى (٩/ ٢٦٤)، وانظر: تلخيص الحبير (٣/ ٨٩).
(١) هم بنو إسرائيل بإجماع العلماء (٢)، وكونهم ﴿كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٣٧] كان فرعون يستضعفهم ويأخذهم أخذ الضعيف الذي لا حيلة له فيقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ويستخدمهم في الأعمال الشاقة، إلى غير ذلك من الإهانات، كما يأتي في قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف: آية ١٤١].
فقوله: ﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ [الأعراف: آية ١٣٧] جماهير العلماء على أن مشارق الأرض هو المفعول الثاني لـ (أورثنا) (٣)، أورثنا المستضعفين مشارق الأرض ومغاربها. أي: جعلناها آيلة إليهم بعد أن أهلكنا الكفار الذين كانوا فيها، وهذا هو التحقيق خلافًا لما نُقل عن الكسائي والفراء (٤) مِنْ أنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضِ، وأن المعنى: وأوْرَثْنَا القوم الذين كانوا يستضعفون في مشارق الأرض ومغاربها، وعلى هذا القول فمفعول الإيراث محذوف. ولا يخفى أن هذا القول غير صواب، وإن نقل عن الكسائي والفراء وغيرهم، وأن التحقيق أن الإيراث واقع على بني إسرائيل، وأن قوله: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ﴾ أن (أورثنا) تطلب مفعولين، المفعول الأول: هو قوله ﴿الَّذِينَ﴾ والمفعول الثاني: هو قوله: ﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ﴾ أي: أورثناهم مشارق الأرض كما جاء موضحًا في آيات أُخر، كقوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨)﴾ [الدخان: آية ٢٨] ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ [الشعراء: آية ٥٩] ونحو ذلك من الآيات.
_________
(١) في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) انظر: الأضواء (٢/ ٣٣١).
(٣) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٣٨).
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٢٧٢).
الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: الآية ٣٧] وبين أنه أهلك قوم هود بالريح العقيم ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)﴾ [الذاريات: الآية ٤٢] وأنه أهلك قوم صالح بصيحة صاح بهم الملك ﴿فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [هود: الآية ٦٧] وأنه أهلك قوم شعيب تارة قال: بصيحة، وتارة قال: برجفة، وتارة بظُلَّة. والتحقيق أن قوم شعيب -أهل مدين- اجتمعت لهم الصيحة والرجفة والظلة؛ لأنه صاح بهم الملك من فوق فرجفت بهم الأرض مِنْ تَحْتِهِمْ، ثم إن الله أرسل عليهم ظُلَّّة فأحرقتهم - على القول بأن أصحاب الظُّلة هم أصحاب الصيحة والرجفة، وهو أظهر الأقوال وأقربها -كما قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف- وبينا أن قوم لوط أخذ المَلَكُ أرْضَهُمْ فَرَفَعَها وقَلَبَهَا عَالِيَهَا سافلها؛ ولذا كانت قرى قوم لوط تسمى (المؤتفكات) والمؤتفكات: مفْتعلات من الأَفْك (١)، والأَفْك في لغة العرب هو القلب. من أفَكَ الشَّيْءَ: إذا قَلَبَهُ فجعل أسْفَلَهُ أعْلاَهُ. ومنه قيل لأسوأ الكذب (إفكاً) لأنه قلب للحقائق عن مواضعها. فقال (جل وعلا) فيهم: ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ [هود: الآية ٨٢] لأنها أَفَكَها الملك أي: قلبها.
فالمؤتفكات: المنقلبات المجعول أسفلها عاليها، تارة عبر عنها بالمؤتفكة نظراً إلى سدوم التي هي عاصمتها، وتارة عبر عن جميع القرى، قال في موضع: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (٥٣)﴾ [النجم: الآية ٥٣] وقال في موضع: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [التوبة: الآية ٧٠] إلى غير ذلك، وهذا معنى قوله: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ﴾ بين هنا ما فعل بآل فرعون؛ لأنه أغرقهم لما أسرى موسى ببني إسرائيل
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأعراف.