المرادَ هنا التي لم يَفْتَحِلْهَا الفحلُ لِصِغَرِ سِنِّهَا، والمعنى: ليست هذه البقرةُ التي أُمِرْتُمْ بِذَبْحِهَا بطاعنةٍ في السِّنِّ فارضٍ، ولا بصغيرةٍ جِدًّا لم يَفْتَحِلْهَا الفحلُ، بل هي ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ العوانُ: النَّصَفُ، أي: لا طاعنةٌ في السِّنِّ ولا بكرٌ، أي: لا صغيرةٌ جِدًّا بل هي: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ والعوانُ: النَّصَفُ، وأصلُ النَّصفِ: التي انْتَصَفَ عُمُرها (١)، وهي وسطٌ في السِّنِّ، ليست بصغيرةٍ جِدًّا، ولا كبيرةٍ جِدًّا، وَكُلُّ متوسطةٍ في السنِّ نَصَفٌ تُسَمِّيهَا العربُ (عَوَانًا)، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الطِّرِمَّاحِ قال (٢):
حَصَانُ مَوَاضِعِ النَّقَبِ الأَعَالِي | نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُونِ |
شَدَّ النَّهارُ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ | قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ |
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٩)، الدر المصون (١/ ٤٢١).
(٢) انظر: الكشاف (١/ ٧٤)، تفسير أبي السعود (١/ ١١١)، الدر المصون (١/ ٤٢١).
(٣) شرح قصيدة كعب بن زهير لابن هشام ص٢٢٩.
(٤) عيون الأخبار (٤/ ٤٣)، والبيت من شواهد ابن هشام في شرحه لقصيدة كعب بن زهير ص٢٣٠.
وَكُلُّ قَلْبٍ بينَ أصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُهَا ويصرفُها كيف شَاءَ، وفي الحديثِ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (١).
وعلى
_________
(١) رواه عن النبي - ﷺ - بهذا اللفظ جماعة من الصحابة وهم:
١ - أنس بن مالك (رضي الله عنه) عند أحمد (٣/ ١١٢)، (٢٥٧)، والترمذي في القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أُصبعي الرحمن، حديث رقم (٢١٤٠)، (٤/ ٤٤٨)، وقال: «حسن» ا. هـ. وابن ماجه في الدعاء، باب: دعاء رسول الله - ﷺ -. حديث رقم (٣٨٣٤)، (٢/ ١٢٦٠)، والحاكم (٢/ ٢٨٨)، وابن أبي عاصم في السنة رقم (٢٢٥)، والآجري في الشريعة ص ٣١٧.
وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة، حديث رقم (٢٢٥)، وصحيح الترمذي، حديث رقم (١٧٣٩)، وصحيح ابن ماجه، حديث رقم (٣٠٩٢).
٢ - عاصم بن كليب عن أبيه عن جده. عند الترمذي في الدعوات باب: (١٢٥)، حديث رقم (٣٥٨٧)، (٥/ ٥٧٣)، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
٣ - النواس بن سمعان (رضي الله عنه) عند أحمد (٤/ ١٨٢)، وابن ماجه في المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، حديث رقم (١٩٩) (١/ ٧٢)، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (٢١٩)، (٢٣٠)، (٥٥٢)، والحاكم (٢/ ٢٨٩)، (٤/ ٣٢١)، وابن حبان (الإحسان (٢/ ١٤٦ - ١٤٧) والآجري في الشريعة ص ٣١٧.
وقد صححه الألباني كما في ظلال الجنة (١/ ٩٨)، (١٠٣ - ١٠٤)، وصحيح ابن ماجه حديث رقم (١٦٥)، والسلسلة الصحيحة، رقم (٢٠٩١).
٤ - أم سلمة (رضي الله عنها) عند أحمد (٦/ ٩١، ٢٩٤ - ٣٠٢، ٣١٥)، والترمذي في الدعوات، باب: (٩٠)، حديث رقم (٣٥٢٢)، (٥/ ٥٣٨)، وابن أبي عاصم في السنة، رقم (٢٢٣، ٢٣٢)، والآجري في الشريعة ص٣١٦، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (١/ ١٠٠، ١٠٤).
٥ - عائشة (رضي الله عنها) عند أحمد (٦/ ٩١، ٢٥١)، والآجري في الشريعة ص٣١٧، وابن أبي عاصم في السنة، حديث رقم (٢٢٤)، (٢٣٣)، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (١/ ١٠١، ١٠٤).
وقد أخرجه مسلم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ مقارب، انظر: كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء، حديث رقم (٢٦٥٤)، (٤/ ٢٠٤٥)، وقد رواه غير هؤلاء من الصحابة كبلال، وجابر (رضي الله عنهم أجمعين).
﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ﴾ [النساء: آية ١٢] فهذه زوجتي ولم يكن لها ولد، فَلِي نِصْف ميراثها بهذه الآية، ولا أتَنَازَل عن نصف ميراثي بدانق. فقامت الأختان فقالتا: يا أمير المؤمنين هذه تركة أختنا، ونحن اثنتان، والله يقول: ﴿فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ [النساء: آية ١٧٦] والله لا نقبل النقص عن الثلثين بدانق. فقال عمر -رضي الله عنه-: ويلك يا عمر، والله إن أعطيت الزوج النصف لم يبق للأختين ثلثان، وإن أعطيت الثلثين للأختين لم يبق للزوج نصف!! فنقول: يا ابن حزم كيف نسكت عن هذا؟ وكيف يكون هذا عفوًا؟! والوحي سكت عن هذا ولم يبين أيَّ النَّصَّيْنِ ماذا نفعل فيهما؟! فهذا لا يمكن أن يكون عفواً، ولا بد من حلّه!! فلا نقول لهم: تهارشوا على التّركة تهارش الحمُر، أو ننزعها من واحد إلى الآخر، فلا بد من إلحاقٍ للمسكوت عنه بالمنطوق به، وحل معقول بالاجتهاد. فجمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، وأسف كل الأسف أنه لم يسأل رسول الله ﷺ عن العول بمثل هذا، وقال له العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، أرأيت هذه المرأة لو كانت تُطَالَب بسبعة دنانير دَيْناً، وتركت ستة دنانير فقط، ماذا كنت فاعلاً؟! قال: أجعل الدنانير الستة سبعة أنصباء، وأُعطي لكل واحد من أصحاب الدنانير نصيباً من الستة. قال: كذلك فافعل، أصل فريضتها من ستة؛ لأن فيها نصف الزوج يخرج من اثنين. وثُلثا الأختين يخرجان من ثلاثة، ومخرج الثلث ومخرج النصف متباينان، فنضرب اثنين في ثلاثة بستة، ثم اجْعَل نَصْفَة زائدة هي المسماة بالعَوْل، فهي فريضة عائلة بسدسها إلى سبعة، فجعل تركة المرأة سبعة أنصباء، وقال للزوج:
ومعنى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ قال أكثر المفسرين (١): ﴿مَشَارِقَ الأَرْضِ﴾: الشام، ومغاربها: مصر. وأن الله أهلك فرعون وقومه وأورث بني إسرائيل أرضهم كما صرح بذلك في قوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨)﴾ [الدخان: آية ٢٨] وقوله: ﴿كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩)﴾ [الشعراء: آية ٥٩] وهي ما تركوا من جنات وعيون، وزروع، ونعمة كانوا فيها فاكهين، وأن مشارق الأرض: هي الشام، أورثهم الله إياها بعد أن أهلك الجبارين الكنعانيين وأبادهم. هذا يقوله أكثر العلماء، ويزعمون أن في التوراة: أن هذه المشارق والمغارب من الفرات، وأنها من الفرات إلى المحل الذي خرجوا من البحر منه [وطلبهم] (٢) منه فرعون!!
وبعض العلماء يقول (٣): مشارق الأرض ومغاربها: الشام فقط؛ لأنه أورثهم أرضه من مشرقها ومغربها، أي: ما يلي المشرق منها وما يلي المغرب.
واعلموا أن الآيات القرآنية دلت دلالة واضحة على أن الله أورث بني إسرائيل ما كان عند فرعون وقومه من الجنات والعيون، والزروع والكنوز، والمقام الكريم، هذا جاء في آيات متعددة، جاء موضحًا في سورة الشعراء، وفي سورة الدخان، وأُشير له هنا في الأعراف.
_________
(١) أكثر السلف على القول الثاني. راجع: ابن جرير (١٣/ ٧٦)، الدر المنثور (٣/ ١١١ - ١١٣).
(٢) في هذا الموضع كلمة غير واضحة وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٣) انظر: ابن جرير (١٣/ ٧٦)، القرطبي (٧/ ٢٧٢).
وضرب بعصاه البحر فانفلق البحر وصار فيه اثني عشر طريقاً يبساً، وسلكها موسى وقومه، فجاء فرعون في قومه وأُبَّهَتِه فوجدوا الطرق يابسة، فدخلوا فيها حتى تكامل خروج بني إسرائيل على الشاطئ، ودخول القبطيين في البحر، أمر الله البحر فاضطرب عليهم، كما جاء مبيناً في سور كثيرة من كتاب الله. وهذا معنى قوله: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ﴾.
﴿وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٤] وكل من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، والكفرة الذين كذبوا محمداً ﷺ كل هؤلاء الكفرة كانوا ظالمين، ظالمين بكفرهم.
وقد قدمنا مراراً (١) أن أصل الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو وضع الشيء في غير محله، فَكُلّ مَنْ وَضَعَ شَيْئاً في غير محلّه فهو ظالم، هذا هو لسان العرب الذي نَزَلَ به القرآن، كلّ مَنْ وَضَعَ شَيْئاً فِي غَيْرِ مَوْضِعِه فَقَد ظَلَمَ؛ ولذا كانوا يقولون لمن يضرب لبنه قبل أن يروب: ظالم. ويقولون للسقاء المضروب قبل أن يروب: مظلوم؛ لأن الضرب وقع في غير موقعه؛ لأن ضربه قبل أن يروب يُذهب زبده ويضيعه، فكان في غير موضعه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر (٢):
وقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائي | وهَلْ يَخْفَى عَلَى العَكدِ الظَّليم |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة.
(٢) السابق.