على سوادِ الإبلِ قولُ الأَعْشَى (١):
تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وَتِلْكَ رِكَابِي | هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ |
وقولُه: ﴿فَاقِعٌ لَّوْنُهَا﴾ هذا نعتٌ سَبَبِيٌّ.
والتحقيقُ في إعرابِ ﴿لَوْنُهَا﴾ أنه فاعلٌ لقولِه: ﴿فَاقِعٌ﴾ وأن ﴿فَاقِعٌ﴾ نعتٌ سَبَبِيٌّ لقولِه: ﴿بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ﴾ و ﴿لَوْنُهَا﴾ فاعلٌ به لقولِه: ﴿فَاقِعٌ﴾.
وقال بعضُ العلماءِ: (لونُها) مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، و (فاقعٌ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وجملةُ المبتدأِ والخبرُ في محلِّ النعتِ. أي: بقرةٌ صفراءُ لونُها فاقعٌ. أي: صفرتُها خالصةٌ جِدًّا (٢).
وقولُه: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ أي: يَدْخُلُ السرورُ على مَنْ نظرَ إليها لكمالِ حُسْنِهَا. ذكروا في قصتِها أن الشمسَ تتوضحُ في جلدِها لشدةِ حُسْنِهَا (٣). وعادةً إذا نظرَ الإنسانُ إلى شيءٍ جميلٍ سَرَّهُ النظرُ إلى ذلك الشيءِ الجميلِ؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾.
وقولُه: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ﴾ [البقرة: الآية ٧٠].
_________
(١) ابن جرير (٢/ ٢٠٠)، القرطبي (١/ ٤٥٠)، (١٩/ ١٦٤)، اللسان (مادة: خشب) (١/ ٨٣٣)، (مادة: صفر) (٢/ ٤٤٨).
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٤٢٤).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٠٢).
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: آية ٧] وكما قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾
[الكهف: آية ٥٧] وقال هنا: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ﴾ [الأنعام: آية ١١٠] وذلك جزاء وفاق وعدل؛ لأَنَّ المعاصيَ ترينُ على القلوبِ وتطمسُها حتى لا تبصرَ حَقًّا.
وهذا هو الأظهرُ في معنَى قولِه: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ﴾ حتى تزيغَ عن إدراكِ الحقِّ، ونقلبُ ﴿أَبْصَارَهُمْ﴾ حتى تزيغَ عن إداركِ الحقِّ ﴿كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ لأَجْلِ أنهم لم يُؤْمِنُوا بهذا القرآنِ ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ جاءهم به الرسولُ، فكان كفرُهم وزيغُهم الأولُ سَبَبًا للطبعِ على قلوبِهم، وتقليبُ قلوبِهم وأبصارهم عن الحقِّ. كقولِه: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: آية ٥] ﴿بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: آية ١٥٥] فالباءُ سَبَبِيَّةٌ. وكقولِه: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (١٢٥)﴾ [التوبة: آية ١٢٥] ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾ [المطففين: آية ١٤] وهذا معنَى قولِه: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الأنعام: آية ١١٠] فـ ﴿كَمَا﴾ من حروفِ التعليلِ، ومعنَى نُقَلِّبُهَا: لأَجْلِ أنهم لم يؤمنوا به أولَ مرةٍ، فذلك الكفرُ يَجُرُّ إلى الخذلانِ وَطَمْسِ البصيرةِ، وتقليبِ القلوبِ والأبصارِ وَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ اللَّهُ قلوبَهم.
وقولُه: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ معناه: نَتْرُكُهُمْ.
وقولُه: ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾: الطغيانُ في لغةِ العربِ: مجاوزةُ الْحَدِّ (١)، ومنه قولُه: ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ﴾ [الحاقة: آية ١١] أي:
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: طغى) ص٥٢٠.
والقِيَاسِ، وأجْمَعَ الصَّحَابَةُ والتَّابِعُونَ على العمل بالقياس واستنباط ما سُكت عنه مما نطق به الوحي. هذا أمر لا نزاع فيه، فمن جمد على النصوص ولم يُلحق المسكوت عنه بالمنطوق به فَقَدْ ضَلَّ وأَضَلَّ.
ومن هذا النوع: ما أجمع عليه جميع المسلمين حتى سلف ابن حزم -وهو داود بن علي الظاهري- كان لا ينكر القياس المعروف الذي يسميه الإمام الشافعي: «القياس في معنى الأصل» ويقول له: «القياس الجلي» وهو المعروف عند الفقهاء بـ «مفهوم الموافقة» و «وإلغاء الفارق» ويسمى: «نفي الفارق» وهو نوع من تنقيح المناط (١). فقد أجمع جميع المسلمين على أن المسكوت عنه فيه يُلحق بالمنطوق، وأن قول ابن حزم: «إنه مسكوت عنه، لم يُتعرض له» أنه كذب محض، وافتراء على الشرع، وأن الشرع لم يَسْكُتْ عَنْه، فقوله تعالى: ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ﴾ [الإسراء: آية ٢٣] يقول ابن حزم (٢): إن هذه الآية ناطقة بالنهي عن التأفيف، ولكنها ساكتة عن حكم الضرب!! ونحن نقول: لا والله، لما نهى عن التأفيف الذي هو أخَفّ الأذى فَقَدْ دَلَّتْ هَذِه الآية مِنْ بَابٍ أَوْلَى عَلَى أنَّ ضَرْبَ الوالدين أشد حُرْمَة، وأشد حُرمة، وأن الآية غير ساكتة عنها بل نَبَّهَت على الأكبر بما هو أصغر منه، فلما نهت عن التأفيف وهو أقل أذيّة من الضرب لم تسكت عن الضرب. ونقول إن قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (٨)﴾ [الزلزلة: الآيتان ٧، ٨] أن هذه الآية ليست ساكتة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: جواب ابن حزم عن هذه الإلزامات في الأحكام ص٩٣٢، فما بعدها.
كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} [الأعراف: آية ١٣٧].
[١٨/أ] / ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٣٩)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٣٨، ١٣٩].
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ العرب تقول: جاوز الشيء وجاوز به غيره إذا جازه وتعدّاه، و (فَاعَلَ) هنا بمعنى المجرد بمعنى: جاز. أي: إذا تخطاه وتعداه، وذلك أن الله (جل وعلا) لما أمر نبيه موسى أن يُسري ببني إسرائيل ويرفع عنهم يد قهر فرعون، وأسرى بهم ليلاً ذاهبين إلى جهة البحر الأحمر، وأن فرعون استيقظ من الصباح فلم يجد من الإسرائيليين أحدًا، فأرسل فرعون في المدائن حاشرين، وزعم أن الإسرائيليين قليل ﴿إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (٥٥)﴾ [الشعراء: الآيتان ٥٤، ٥٥] وأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا، فلما ارتفع النهار تراءا الجمعان: بنو إسرائيل على شاطىء البحر، وفرعون يتبعهم من ورائهم، فخاف الإسرائيليون خوفًا شديدًا كما أوضحناه سابقًا في سورة البقرة، فقالوا: إن تقدمنا فالبحر أمامنا، وإن تأخرنا ففرعون وجنوده من ورائنا. فقال الله لهم ما قال في سورة طه: ﴿لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى﴾ وفي قراءة أخرى: ﴿لا تَخَفْ دركًا ولا تخشى﴾ (١) [طه: آية ٧٧] دركًا مما وراءك من فرعون وجنوده، ولا تخشى من البحر أمامك، سيجعل الله لكم مخرجًا.
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٩٦.
فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)} [الأنفال: الآيات ٥٥ - ٦١].
يقول الله جل وعلا: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (٥٨)﴾ [الأنفال: الآيات ٥٥ - ٥٨].
نزلت هذه الآيات في بني قريظة من اليهود (١)، كانوا تعاهدوا مع النبي ﷺ أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه عدوّاً، ثم إنهم نقضوا العهد وأعانوا كفار مكة بالسلاح، وذهب إليهم كعب بن الأشرف -قبحه الله- إلى أهل مكة يُشَجِّعُهم على قتال النبي ﷺ ويكذب عليهم ويقول لهم: أنتم أهدى طريقاً مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ كما قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله: ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً﴾ [النساء: الآية ٥١] نقض بنو قريظة العهد أولا فأعَانُوا قُرَيْشاً بالسلاح على النبي -صلى الله عليه وسلم- والإعانة بالسلاح نقض للعهد الأول - فلما كلمهم ﷺ في نقض ذلك العهد قالوا: نسينا وأخطأنا فلا تأخذنا بها. وأكدوا معه العهد مرة أخرى، ثم نقضوا العهد ومَالَئُوا الأحزاب على النبي ﷺ يوم الخندق، وكانوا حرباً عليه مع المشركين؛ لأن حيي بن أخطب سيد بني النضير كان فتن سيد قريظة كعب بن أسد حتى نقضوا العهد وصاروا مع الأحزاب حرباً على النبي ﷺ فأنزل الله فيهم: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٥٥)﴾ [الأنفال: الآية ٥٥].
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٤/ ٢١).