[البقرة: الآية ٧١] الذلولُ: هي التي ذُلِّلَتْ بالرياضةِ حتى صَارَ يُعْمَلُ عليها، يُحْرَثُ عليها وَيُسْتَقَى. تقول العربُ مثلاً: هذه دابةٌ ذلولٌ، بَيِّنَةُ الذِّل (بالكسرِ)، ورجلٌ ذَلِيلٌ، بَيِّنُ الذُّل (بالضم) (١).
﴿إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ﴾ أي: لم تُذَلَّلْ بالرياضةِ، بل هي صعبةٌ مُتَوَحِّشَةٌ.
وقولُه: ﴿لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ يعني لم تُذَلَّلْ، ليست بذلولٍ مُرَوَّضَةٍ، ولا تثيرُ الأرضَ، أي: لا يُحْرَثُ عليها؛ لأن البقرَ تُثَارُ عليها الأرضُ للحرثِ، وهذه البقرةُ لَمْ تُذَلَّلْ بالرياضةِ، ولم تُثِرْ أرضَ الحرثِ لصعوبتِها وَتَوَحُّشِهَا، فليست مُرَوَّضَةً.
﴿تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ يعني: ليست مِمَّا يُحْرَثُ عليه، ولا يُسْتَنَى عليه لِسَقْيِ الزرعِ؛ لأنها صعبةٌ مُتَوَحِّشَةٌ. وهذا هو التحقيقُ: أن ﴿تُثِيرُ﴾ و ﴿تَسْقِي﴾ كلها معطوفاتٌ على النفيِ فهي منفيةٌ (٢). والمعنى: ﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ ليست مذللةً مُرَوَّضَةً، وليست ﴿تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ للحرثِ و ﴿وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ أيضًا؛ لأنها صعبةٌ
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٤٢٩).
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٢)، الدر المصون (١/ ٤٢٨).
قَرَأَهُ الجمهورُ ﴿قُبُلاً﴾. وقرأَه اثنانِ من السبعةِ ﴿قِبَلاً﴾ (١). أما على قراءةِ: ﴿قِبَلاً﴾ فهو مِنَ الْمُعَايَنَةِ. معنَى: ﴿وحشرنا عليهم كل شيء قِبَلاً﴾ أي: معاينةً وجهًا لِوَجْهٍ من غيرِ مواراةٍ بِشَيْءٍ (٢). وعلى قراءةِ ﴿قُبُلاً﴾ ففيهِ وَجْهَانِ (٣): أحدُهما: أن القُبُلَ جمعُ قبيل، أي: جماعات جماعات. كَأَنْ تَأْتِيَهُمُ الملائكةُ جماعاتٍ.
وقال بعضُ العلماءِ (٤): ظاهرُ قولِه ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ أن تأتيَهم الملائكةُ قبيلاً، وكلُّ نوعٍ من أنواعِ الحيواناتِ قبيلاً قبيلاً، فأنطقَها اللَّهُ على خرقِ العادةِ، وكَلَّمَتْهُمْ، كُلُّ هذا لو وَقَعَ لَمْ يؤمنوا.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ (٥): ﴿قُبُلاً﴾ و ﴿قِبَلاً﴾ معناهما واحدٌ؛ لأن القُبلَ: هو ما تستقبله بوجهِكَ وتعاينُه. ومنه قيل لِمَا يستقبلُه الرجلُ من وجهِه: «قُبُل» وَلِمَا خَلْفَهُ «دُبُر» وعلى هذا القولِ فـ ﴿قِبَلاً﴾ و ﴿قُبُلاً﴾ معناهما واحدٌ، وعلى القولِ الثاني: أن (القُبُلَ) جمع قَبِيلٍ، والمعروفُ في فَنِّ التصريفِ أن (الفعيل) إذا كان اسْمًا يُجْمَعُ غالبًا على (فُعُل) كَقَذَال وقُذُل، وسرير وسُرُر وما جرى مَجْرَى ذلك (٦).
والمعنَى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: جَمَعْنَا عليهم ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ من جميعِ الأشياءِ قبيلاً
_________
(١) وهما: نافع وابن عامر. المصدر السابق ص٢٠١.
(٢) انظر: حجة القراءات ص ٢٦٧، ابن جرير (١٢/ ٤٨ - ٤٩).
(٣) السابق.
(٤) انظر: القرطبي (٧/ ٦٦).
(٥) انظر: المصدر السابق.
(٦) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٣٩٦).
أنثى ذكراً، أو قذف ذكر ذكراً، أو قذفت أُنثى أُنثى، كيف نقول إن هذا عفو، وإن هذا القذف لا مؤاخذة فيه؛ لأن الله إنما نص على قذف الذكور للإناث، حيث قال: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ [النور: آية ٤] ولما أراد ابن حزم هنا أن يدخل الجميع في عموم المحصنات فقال: المحصنات نعت للفروج (والذين يرمون الفروج المحصنات) فيشمل الذكور والإناث (١)، يُرد عليه: أن المحصنات في القرآن لم تأتِ قط للفروج، وإنما جاءت للنساء، وكيف يجري ذلك في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ [النور: آية ٢٣] وهل يمكن أن تكون الفروج غافلات مؤمنات؟! هذا مما لا يعقل.
وكذلك نص الله (جل وعلا) على أن المبتوتة إذا طلقها الأول ثلاث طلقات فصارت مبتوتة حراماً عليه إلا بعد زوج، ثم تزوجها زوج فدخل بها ثم طلقها هذا الزوج الأخير فإنه يجوز للأول أن ينكحها؛ لأنها حلت بنكاح الثاني. والله إنما صرح في هذه السورة بنص واحد، وهو أن يكون الزوج الذي حل لها إنما طلقها لأنه قال في تطليق الأول: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلآ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ﴾ [البقرة: آية ٢٣٠] ثم قال في تطليق الزوج الذي حللها: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلآ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ أي: على الزوجة التي كانت حراماً؛ والزوج الذي كانت حراماً عليه ﴿أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله﴾ [البقرة: آية ٢٣٠] فنص على طلاق المحلل خاصة. ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ أرأيتم لو حللها وجامعها مئة مرة حتى حلّت، وكانت كماء المزن، ثم مات قبل أن يطلقها، أو فسخ حاكم عقدهما بموجب آخر بالإعسار بنفقة أو غير
_________
(١) انظر: كتابه الإيصال (ملحق في آخر المحلى) (١١/ ٢٧٠).
﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ قرأ هذا الحرف جمهور القراء منهم السبعة غير حمزة والكسائي: ﴿يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ بضم الكاف. وقرأه من السبعة حمزة والكسائي: ﴿يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لهُمْ﴾ بكسر الكاف (١). وهما قراءتان سبعيتان صحيحتان، ولغتان عربيتان فصيحتان.
والعكوف: معناه الإقامة، أي: يقيمون ملازمين عبادة الأصنام.
﴿عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ﴾ يعكفون مقيمين عليها دائمًا يعبدونها، يُقال: إنها تماثيل بقر كما قاله ابن جريج.
﴿قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا﴾ صنمًا مثل أصنام هؤلاء نعبده ﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ (ما) بقوله: ﴿كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ قيل: هي كافة للكاف؛ ولذا جاءت بعدها جملة. وبعضهم يقول: هي مصدرية. وبعضهم يقول: موصولة. والخطب في ذلك سهل (٢). والمعنى: كما أن هؤلاء لهم آلهة فاجعل لنا إلهًا كآلهتهم نعبده -والعياذ بالله- وبعض العلماء يقول: هم كفروا بهذا القول؛ لأن من طلب عبادة غير الله فقد كفر. وقال بعض العلماء: كانوا قومًا يتمكن منهم الجهل، يظنون أَنَّ مَنْ تَقَرَّبَ إلى الله بعبادة غيره أن ذلك يُقَرِّبُهُ إلى الله!! ويعتقدون أن ذلك يصح! وهذا غاية الجهل، كما قال لهم نبي الله موسى: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ وصفهم بالجهل المطلق، وجاء بصيغة المضارع يشير إلى أن الجهل كأنه معهم في الحال والمستقبل لا يفارقهم،
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٤.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٤٢).
فـ (ثمَّ) للاستبعاد، ومن شواهد إتيان (ثم) للاستبعاد قول الشاعر (١):
وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ | يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثمَّ يَزُورُهَا |
﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ﴾ نقض العهد هو عدم الوفاء به ونكثه ﴿عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ كما نقضوا في المرة الأولى حيث أعانوا كفار مكة بالسلاح، ونقضوا في المرة الثانية حيث صاروا مع الأحزاب على النبي وأصحابه ﷺ ورضي عنهم. وهذا معنى قوله: ﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ لا يتقون الله (جل وعلا) فيجترئون على نقض العهود وعلى كل جريمة، ليس لهم تقوى من الله تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه، وهذه -والعياذ بالله- أمور قبيحة؛ حيث كانوا شر الدواب، وكانوا كافرين، ولا يؤمنون، وينقضون العهود، ولا يتقون الله، فهذا منتهى الذم -والعياذ بالله- هذا معنى قوله: ﴿وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٦].
وقوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ﴾ [الأنفال: الآية ٥٧] ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ هذه (إن) هي الشرطية زيدت بعدها (ما) المزيدة لتوكيد الشرط. والأصل: فإن تثقفهم فشرد بهم. والفاء في قوله: ﴿فَشَرِّدْ﴾ لأن الجملة الطلبية جزاء الشرط، والمقرر في علم العربية أن جزاء الشرط إن كان لا يصلح أن يكون فعلاً للشرط وجب اقترانه بالفاء (٢)، يعني: إن تثقفهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم، والعرب تقول:
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧٤) من سورة البقرة.
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٣١٦).