متوحشةٌ. خلافًا لمن زَعَمَ أن ﴿تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ مُؤْتَنَفٌ.
والذين قالوا: «تثير الأرض» (١) يردُّ قولهم أنه قال: ﴿لاَّ ذَلُولٌ﴾ والمروضةُ للحرثِ ذَلُولٌ.
وأجابَ بعضُهم (٢): أن المرادَ بـ ﴿تُثِيرُ الأَرْضَ﴾ أي: تُثِيرُهَا بشدةِ وطءِ أظلافِها لنشاطِها وقوتِها. وهذا خلافُ الظاهرِ، بل معنى الآيةِ: أن من صفاتِ هذه البقرةِ أنها غيرُ مُرَوَّضَةٍ، وغيرُ مُذَلَّلَةٍ، فليست تثيرُ الأرضَ؛ لأنها لم تُذَلَّلْ لذلك، ولا تَسْقِي الحرثَ، ولا يُسْتَنَى عليها؛ لأنها لم تُرَضْ، ولم تُذَلَّلْ لذلك. وهذا هو معنى الآيةِ.
وقولُه: ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ أي: مِنْ جميعِ العيوبِ، ليس فيها عَرَجٌ، ولا عَوَرٌ، ولا كَسْرُ قَرْنٍ، ولا أَيُّ عَيْبٍ. أي: مُسَلَّمَةٌ من جميعِ العيوبِ.
وقولُه: ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ وَزْنُ الشِيَةِ: (عِلَة)، وأصلُ مَادَّتِهَا: (وَشَى)، ومعروفٌ أن المثالَ - أعني واويَّ الفاءِ - يَطَّرِدُ حذفُ فائِه فى المصدرِ - مثلاً - إذا كان على (عِلَة) (٣)، وكذلك في المضارعِ والأمرِ، كما عقده في الخلاصةِ بقولِه (٤):
فَا أَمْرٍ اوْ مُضَارِعٍ مِنْ كَوَعَدْ | احْذِفْ وَفِي كَعِدَةٍ ذَاكَ اطَّرَدْ |
_________
(١) أي: على الإثبات.
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٣).
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٤)، الدر المصون (١/ ٤٣١).
(٤) الخلاصة ص٧٩، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٦٥٣).
قبيلاً، أي: فَوْجًا فَوْجًا، وجماعةً جماعةً، أو: (قِبَلاً) معاينةً، لو فَعَلْنَا لهم كُلَّ هذا ﴿مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ هذه اللامُ هي التي تُسَمَّى (لامَ الجحودِ) والفعلُ المضارعُ منصوبٌ بـ (أن) بعدَها (١) والمعنَى: ما كانوا مُرِيدِينَ لأَنْ يؤمنوا، أو: ما كانوا مُسْتَعِدِّينَ لأَنْ يؤمنوا ﴿إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ التحقيقُ: أن الاستثناءَ متصلٌ، خلافًا لِمَنْ زَعَمَ أنه منفصلٌ (٢).
والمعنَى: ما كانوا ليؤمنوا في حالةٍ من الأحوالِ إلا في حالةِ أن يشاءَ اللَّهُ ذلك؛ لأنهم مُتَعَنِّتُونَ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو (أنَّ) المفتوحةَ إنما تكونُ لِسَدِّ مصدرٍ، فهي بمعنَى اسمٍ بالتأويلِ، و (لو) حرفُ شرطٍ لا يدخلُ إلا على الجملةِ الفعليةِ، فكيف دخل هنا على الاسمِ الذي هو المصدرُ المنسبكُ من (أنَّ) وصلتِها (٣)؟
وهذا السؤالُ جوابُه معروفٌ، لأن إتيانَ (أنَّ) بعدَ (لو) كثيرٌ جِدًّا في القرآنِ العظيمِ ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾ [لقمان: آية ٢٧] ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: آية ٦٤] فهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، ومنه في كلامِ العربِ قولُ لَبِيدٍ (٤):
_________
(١) انظر: الكتاب لسيبويه (٣/ ٧)، الدر المصون (٥/ ١١٤) الكليات ص ٨٧١، معجم الإعراب والإملاء ص ٣٥٤.
(٢) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠٦)، الدر المصون (٥/ ١١٤).
(٣) انظر: ضياء السالك (١/ ١٥٢)، (٤/ ٦٠ - ٦١)، مغني اللبيب (١/ ٢١٣)، المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (٣/ ١١٣٧).
(٤) البيت في اللسان (مادة: لعب) (٣/ ٣٧٢)، مغني اللبيب (١/ ٢١٤)، وشطره الثاني: (أدركه ملاعب الرماح).
ذلك من أسباب الفسخ، أيقول مسلم: إن هذه لا تحل للأول؛ لأن الله ما نص إلا على قوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ ولو مات لم تحل؛ لأن الموت ليس بطلاق!! هذا مما لا يقوله عاقل!! وأمثال هذا كثيرة جدّاً. فنحن نقول: إن هذا الذي يقول ابن حزم: «إن الوحي سكت عنه» الوحي لم يسكت عنه، وإنما أشار إليه لتنبيهه لبعضه على بعضه، فالغضب يدل على كل تشويش فكر. والمحصنات لا فرق بين المحصنات والمحصنين. وقوله: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا﴾ [البقرة: آية ٢٣٠] لا فرق بين ما لو طلقها أو مات عنها، فَبَعْدَ أنْ جَامَعَهَا وفارَقَهَا تَحِلّ للأَوَّلِ سواء كان الفراق بالطلاق المنصوص في القرآن، أو بسبب آخر كالموت والفَسْخِ. وهذا مما لا ينازع فيه عاقل، وإن نازع فيه ابن حزم.
ثم إن ابن حزم يسخر من الإمام أبي حنيفة (رحمه الله)؛ لأن الإمام أبا حنيفة (رحمه الله) يقول: إن التشهد الأخير يخرج الإنسان به من الصلاة بكل مناف للصلاة. ورُوي عنه: حتى أنه لو انتقض وضُوؤُه فضرط أنه خرج من الصلاة؛ لأن الضراط مناف لها. وكان ابن حزم يسخر عليه من هذا فيقول: ألا ترون قياس الضراط على (السلام عليكم) الوارد في النصوص!! إن لم يكن قياس الضراط على (السلام عليكم) قياساً فاسداً فليس في الدنيا قياس فاسد!!
ويسخر من الإمام مالك في مسائل كثيرة ويقول: إنه يقيس قياسات الألغاز؛ لأن مالكاً (رحمه الله) جعل أقل الصداق رُبْعَ دِينار، أو ثلاثة دراهم خالصة. قال: قياساً على السرقة بجامع أن كلّاً منهما فيه استباحة عضو في الجملة؛ لأن النكاح فيه استباحة الفرج بالوطء، والقطع فيه استباحة اليد بالقطع، فابن حزم يسخر من مالك ويقول:
ثم أجابهم هنا قال: ﴿إِنَّ هَؤُلاء﴾ الذين يعبدون هذه الأصنام ﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ [الأعراف: آية ١٣٩] المُتَبَّر: اسم مفعول (تبَّره) والعرب تقول: تبّره يُتَبِّره تتبيرًا: إذا كسّره ودمره، والإناء المُتَبَّر: معناه المكسر. والذهب المُتبَّر: المكسر. والتِّبر: قطعة من الذهب إذا تُبِّر، أي: إذا كُسِّر. ومنه قوله تعالى: ﴿وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: آية ٧] هذا الذي فيه هؤلاء من عبادة الأوثان مُدَمَّر، مُحْرقٌ، مُكسر لا خير فيه؛ لأنه كله باطل، ولا ينبغي لأحد أن يفعله (١) ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وأظهر أوجه الإعراب في هذا (٢): أن قوله: ﴿مُتَبَّرٌ﴾ هو خبر (إن) وأن قوله: ﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ نائب فاعل (مُتَبَّر) وكذلك ﴿مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فاعل به لقوله: ﴿وَبَاطِلٌ﴾. هذا أجود الأعاريب في الآية.
وهذا معنى قوله: ﴿إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (١٣٩)﴾ الباطل: هو الزائل المضمحل الذي لا بقاء له؛ لأن الله يقول: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (٢٣)﴾ [الفرقان: آية ٢٣] فهذا معنى قوله: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
﴿قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا﴾ [الأعراف: آية ١٤٠] بهمزة استفهام الإنكار، ينكر عليهم إنكارًا شديدًا، والعرب تقول: أبغيك وأبغي لك. معناه: أطلب لك. أفغير الله أطلب لكم إلهًا؟ ﴿إِلَهًا﴾ غير الله، والهمزة للإنكار، أَنْكَرَ عليْهِمْ هذا الطلب إنكارًا شديدًا؛ أوَّلاً وَصَفَهُمْ بالجَهْلِ، وبيَّن لهم بطلان عبادة الأصنام، ثم أنْكَر عليهم طلبهم إلهًا غير الله؛ ولذا قال: ﴿أَبْغِيكُمْ إِلَهًا﴾ أبغي لكم
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٢٧٣).
(٢) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٤٤).
ثقفه يثقفه في الحرب إذا كان له في الحرب ثقافة، أي: بصيرة وعلم قَدَرَ بها على أن يتمكن من قِرنه ويظفر به. يعني: إن كانت ثقافتك في الحرب وبصرك بها خوَّل لك أن تتمكن منهم وتقدر عليهم ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ (من) مفعول (شرِّد) ومعنى: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ افعل لهم فعلاً فظيعاً وعقاباً منكراً هائلاً عظيماً يكون ذلك العقاب عظة لمن خلفهم ومن وراءهم فيتفرقوا ويَتَبَدَّدُوا عنك ويخافوا. وكان بعض الفرسان الشجعان لما سُئل: بأي طريق صار الفوارس يخافونك؟ قال: إذا ظفرت بفارس ضربته ضرباً فظيعاً منكراً ليخاف من وراؤه فلا يجترئوا عليَّ!! فمعنى: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ أي: افعل بهم عقاباً منكراً فظيعاً يكون ذلك العقاب المنكر الفظيع سبباً لتشريد مَنْ وَرَاءَهُمْ لِتَفْرِيقِهِمْ وتَبَدُّدِهِمْ عنك وخوفهم منك، وإن كان عند أحدهم عهد فإنهم يخافون مِنْ نَقْضِهِ ويفون به لئلا تَفْعَلَ بِهِمْ مَا فعلت بهم، وهذا هو التَّحْقِيق في معنى الآية، أي: شرِّد مَنْ خَلْفَهُمْ، أي: فَرِّق مَنْ خَلْفَهم وخَوِّفهم وبَدِّدْهُمْ بسبب فِعْلِكَ فيهم؛ لأنك إذا فعلت في هؤلاء الناقضين للعهد ذلك التنكيل العظيم خافَكَ غَيْرُهُمْ فتَفَرَّقُوا وتَبَدَّدُوا عَنْكَ، وخافُوا مِنْكَ، وحافظوا على العُهُودِ إن كانت لهم عهود لئلا توقع بهم مثل ما أوقعت بهؤلاء. وهذا معنى قوله: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾.
والضمير في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ راجع لـ ﴿مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ ﴿لَعَلَّهُمْ﴾ أي: مَنْ خَلْفَهُمْ، مَنْ وَرَاءَهُمْ ﴿يَذَّكَّرُونَ﴾ يَعْتَبِرُونَ ويَتَّعِظُونَ بالفِعْلِ العَظِيمِ الَّذِي فَعَلْتَ بهؤلاَءِ فَلاَ يَجْتَرِئوا عليك بعدها. وهذا معنى قوله: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٧] ولما مكن الله النبي ﷺ من بني قريظة وَحَكَّمَ فِيهِمْ سَعْدَ