يكونَ في الشيءِ لونانِ مختلفانِ، فكلُّ - مثلاً - شيءٍ فيه لونانِ مختلفانِ تقولُ العربُ: فيه وَشْيٌ (١). واذا كان - مثلاً - حمارُ الوحشِ أو الثورُ فيه خطوطٌ - يعني تُخَالِفُ لونَه في أَرْجُلَهُ - يقولون له: مَوْشِي. أي: فيه وَشْيٌ. ومن هذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):

كَأَنَّ رَحْلِي وقَدْ زَالَ النَّهَارُ بِنَا بِذِي (٣) الْجَلِيلِ (٤) عَلَى مُسْتَأْنَسٍ وَحَدِ
مِنْ وَحْشِ وجْرَةَ (٥) مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ طَاوِي الْمَصِيرِ (٦) كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ
(مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ) يعني [أن] (٧) فيها وَشْيًا. أي: خطوطًا تُخَالِفُ لونَه، فمعنى ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾ أي: لا وشيَ من خطوطٍ مخالفةٍ للونها، بل لونُها كُلُّهُ أصفرُ فاقعٌ على وتيرةٍ واحدةٍ، حتى قال بعضُ العلماءِ (٨): إن أظلافَها وقرونَها صفرٌ. وهذا معنى قوله: ﴿لاَّ شِيَةَ فِيهَا﴾.
﴿قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ الأَلِفُ واللامُ زائدتانِ لزومًا في ﴿الآنَ﴾ (٩). وهي يُعَبَّرُ عنها بالوقتِ الحاضرِ. وبعضُ العلماءِ يقولُ:
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٤)، الدر المصون (١/ ٤٣١).
(٢) ديوان النابغة الذبياني ص١٠ - ١١.
(٣) في الديوان: (يوم).
(٤) واد قرب مكة، وقد جاوزه البنيان في هذا الوقت.
(٥) وجرة: اسم مكان معروف بين مكة والبصرة، بينها وبين مكة نحو أربعين ميلا، ليس فيها منزل، فهي مرتع للوحش. انظر: معجم البلدان (٥/ ٣٦٢).
(٦) أي: ضامر البطن.
(٧) في الأصل: أنها.
(٨) انظر: ما نقله ابن جرير عن بعض السلف في هذا المعنى في التفسير (٢/ ١٩٩ - ٢٠٠).
(٩) انظر: الدر المصون (١/ ٤٣٣).
لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكَ الفَلاَحِ لَنَالَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ
والجوابُ عندَ علماءِ العربيةِ: أن المصدرَ الْمُنْسَبِكَ من (أن) وصلتِها في محلِّ رفعٍ فاعلُ فعلٍ محذوفٍ، قالوا: تقديرُه «ولو ثَبَتَ أننا نَزَّلْنَا إليهم الملائكةَ» أي: لو ثَبَتَ ووقعَ تنزيلُنا الملائكةَ عليهم ﴿مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ إيمانَهم ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ أي: أكثرَ الكفارِ.
قال بعضُ العلماءِ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾ أي: أكثرَ الكفارِ.
وقال بعضُ العلماءِ: ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ أي: أكثرُ الجميعِ مِنَ الكفارِ والمسلمين ﴿يَجْهَلُونَ﴾ أنهم لو أُنْزِلَتْ عليهم الآياتُ التي اقْتَرَحُوا لم يؤمنوا.
والقولُ الأولُ أظهرُ؛ لأن التعبيرَ بالمضارعِ فِي: ﴿يَجْهَلُونَ (١١)﴾ يدلُّ على أنهم من عادتِهم وشأنِهم الجهلُ وعدمُ المعرفةِ بِاللَّهِ. وهذا أَلْيَقُ بالكفارِ.
[١٥/أ] / ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢)﴾ [الأنعام: آية ١١٢].
لَمَّا كان كفارُ مكةَ، أعداءً للنبيِّ - ﷺ - عَادَوْهُ شدةَ المعاداةِ، حتى اضطر إلى أن يخرجَ مُهَاجِرًا إلى هذه المدينةِ حَرَسَهَا اللَّهُ، عن مسقطِ رأسِه الذي وُلِدَ به؛ لِمَا لَقِيَ مِنْ أَذَاهُمْ وَهَمِّهِمْ بِأَنْ يَقْتُلُوهُ كما يأتِي في سورةِ الأنفالِ في قولِه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾ [الأنفال: آية ٣٠].
هذه ألغاز ومحاجاة بعيدة من الشرع، وتشريعات باطلة. وأمثال هذا منه كثيرة (١).
ونحن نضرب مثلاً: فإنه من أشد ما حمل فيه على الأئمة -رحمهم الله- مسألة حديث تحريم رِبَا الفَضْلِ؛ لأن النبي ﷺ ثَبَتَ عنه في الأحاديث الصحيحة أنه قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بمِثْل، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى» (٢) ابن حزم يقول: ليس في الدنيا ما يحرم فيه ربا الفضل إلا هذا. ويقول: الدليل على أنهم مُشَرِّعون، وأن أقوالهم كلها كاذبة؛ لأن بعضهم كالشافعي يقول: علة الربا في البر: الطعم، فيقيس كل مطعوم على البر فيقول: إن المطعومات كالفواكه كالتفاح وغيره من الفواكه يحرم فيه الربا قياساً على البر بجامع الطعم. وأبو حنيفة وأحمد يقولان: العلة: الكيل، فيقولان: كل مكيل يحرم فيه الربا قياساً على البر. فيحرمان الربا في النُّورة والأشنان وكل مكيل. فيقول ابن حزم: هذا يقول: «العلة الطعم» ويُلحق أشياء، وهذا يقول: «العلة الكيل» ويُلحق أشياء أخرى، وكل منهم يُكَذِّب الآخر (٣)!! فهذه القياسات
_________
(١) انظر الإحكام ص١٠٨٢.
(٢) البخاري في البيوع، باب: بيع الفضة بالفضة، حديث رقم (٢١٧٦، ٢١٧٧، ٢١٧٨)، (٤/ ٣٧٩)، ومسلم في المساقاة، باب: الربا، حديث رقم (١٥٨٤)، (٣/ ١٢٠٨، ١٢١١)، من حديث أبي سعيد الخدري، وقد جاء في هذا المعنى عدة أحاديث، منها حديث أبي بكرة عند البخاري (٢١٧٥)، (٢١٨٢) ومسلم (١٥٩٠)، وحديث عمر عند مسلم (١٥٨٦)، وفيه أيضاً عن عبادة (١٥٨٧)، وأبي هريرة (١٥٨٨)، وفضالة بن عبيد (١٥٩١).
(٣) انظر: الإحكام ص١٠٦٥، ١٠٨٢.
وأطلب لكم معبودًا غير الله سبحانه عن ذلك وتعالى علوًّا كبيرًا ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ والحال: هو فضلكم على العالمين. ومن تفضيله لكم: أن أهلك عدوكم وأنجاكم وأنقذكم من هذا الطاغية العظيم، وهم في ذلك الوقت -جميع الناس كفرة- وهم عندهم إيمان، فهم أحسن الموجودين على ما كان منهم مما لا ينبغي، وهذا معنى قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وقد بينّا مرارًا النصوص الصحيحة الدالة على أن هذه الأمة الكريمة أفضل منهم مرارًا (١)، وهذا معنى قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: آية ١٤٠].
﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)﴾ [الأعراف: آية ١٤١].
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: ﴿وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ وقرأه ابن عامر وحده من السبعة: ﴿وَإِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ من غير ياء ولا نون (٢). فعلى قراءة ابن عامر: اذكروا إذ أنجاكم الله. أنجاكم هو، أي: الله. وعلى قراءة الجمهور: ﴿أَنجَيْنَاكُم﴾ فالنون للتعظيم، والله هو المتكلم بذلك معظمًا لنفسه، وقوله: واذكروا ﴿إِذْ أَنجَيْنَاكُم﴾ حين أنجيناكم ﴿مِّنْ آلِ فِرْعَونَ﴾ أي: من فرعون وقومه.
﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ قال بعض العلماء: ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٧) من سورة البقرة.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٤.
الأَوْسِ سَعْدَ بن معاذ (رضي الله عنه)؛ لأن النبي كان ﷺ لما ظفر بيهود قينقاع جاءه عبد الله بن أُبيّ رئيس المنافقين من الخزرج، وكان بنو قينقاع حلفاء الخزرج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: شفعني في حلفائي. فشفعه فيهم، فأُجلوا إلى نواحي الشام، وطُردوا من المدينة إلى نواحي الشام، فلما نزلوا (١) على حكم النبي ﷺ وأمكن منهم جاءت الأوس -كما ذكره غير واحد من أهل السير والأخبار- فقالوا للنبي صلى الله عليه
[٧/أ] وسلم:/ شَفَّعْتَ إخْوَانَنَا الخَزْرَجَ في حُلَفَائِهِمْ بَنِي قَيْنُقَاع، وهؤلاء بنو قريظة حلفاؤنا -لأن قريظة حلفاء الأوس- فَشَفِّعْنا فيهم كما شَفَّعْت إخواننا في حلفائهم، والنبي ﷺ يكره ألا يجيب دعاءهم، ويكره ألا يُشَرِّد ببني قريظة ويفعل فيهم الأفاعيل، فتخلص من هذا وقال: «أُحَكِّم فِيهِمْ رَجُلاً مِنْ خِيَارِكُمْ هُوَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ». فقالوا: رضينا. فحَكَّم فيهم سعد بن معاذ (رضي الله عنه)، وكان سعد (رضي الله عنه) جُرِح في غزوة الخندق، جَرَحَهُ حبان بن العَرَقَة، أصابه في أكحله -وهو العِرْق الذي في العنق- وكان لما سال الدم من عِرْقه وخاف الموت كان دعا الله وقال: اللهم إن كنت أبقيت بين نبيك وبين كفار مكة حَرْباً فَأَبْقِنِي لها؛ لأنِّي لا أحِبّ أن أقاتل قوماً مثل القوم الذين أخْرَجوا نبيك من بلده وفعلوا له وفعلوا، وإن كان في عِلْمِكَ أنه لم يَبْقَ بَيْنَهُ وبين قريش حرب فاجعل لي هذا الجرح شهادة، ولا تُمِتْنِي حتى تقرَّ عَيْنِي في بني قريظة. فلما حكَّمه النبي ﷺ فيهم فجاء على حمار -لما جاء للتَّحْكِيم- فقال لهم النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» قال سعد (رضي الله عنه): حكمت فيهم بأن يُقْتَل رجالهم، وتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ
_________
(١) يعني: قريظة.


الصفحة التالية
Icon