هو مَبْنِيٌّ على الفتحِ؛ لأنه خُولِفَتْ به نظائرُه. وعلى كُلِّ حَالٍ فالمرادُ بـ ﴿الآنَ﴾: الوقتُ الحاضرُ، في هذا الوقتِ الحاضرِ ﴿جِئْتَ﴾ - يعني في صفاتِ هذه البقرةِ المطلوبةِ - ﴿بِالْحَقِّ﴾ ويتعينُ هنا حذفُ الصفةِ؛ لأنه لو لم تُقَدَّرِ الصفةُ لكانوا كُفَّارًا؛ لأنهم لو قالوا: لم يَأْتِ بالحقِّ إلا في هذا الوقتِ، فَقَبْلَ هذا الوقتِ لم يكن آتِيًا بالحقِّ!! كانوا مُكَذِّبِينَ لنبيٍّ كريمٍ، وَمَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا كَرِيمًا فهو كافرٌ؛ ولذلك يتعينُ تقديرُ النعتِ هنا (١)، والمعنى: جئتَ بالحقِّ الذي لا يتركُ في هذه البقرةِ لَبْسًا لإيضاحِها بصفاتِها الكاشفةِ تَمَامًا، وقد تقرر في علمِ العربيةِ: أَنَّ حَذْفَ الصفةِ إذا دَلَّ المقامُ عليه موجودٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ (٢)، فَمِنْ أمثلتِه في القرآنِ ﴿وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: آية ٧٩] حُذِفَ نَعْتُهَا، أي: كُلَّ سفينةٍ صحيحةٍ؛ إِذْ لو كان يأخذُ المعيبةَ لَمَا كان في خرقِ الْخَضِرِ للسفينةِ فائدةٌ، ولَمَا قَالَ: ﴿فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا﴾ [الكهف: آية ٧٩].
قال بعضُ العلماءِ (٣): ومنه ﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾ [الإسراء: آية ٥٨] قالوا: حُذِفَ وَصْفُهُ. أي: وإن من قريةٍ ظالمةٍ. بدليلِ قولِه: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ [القصص: آية ٥٩]. وَمِنْ شَوَاهِدِ حذفِ النعتِ في لغةِ العربِ قولُ الشاعرِ، وهو المرقَّشُ الأكبرُ (٤):
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٢٥٧).
(٢) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ١٥٣). أضواء البيان (٣/ ٦٠٠)، (٤/ ١٨٠).
(٣) راجع الهامش السابق.
(٤) ضياء السالك (٣/ ١٨)، المعجم المفصَّل في شواهد النحو الشعرية (١/ ٢٢٧).
أراد اللَّهُ أن يُسَلِّيَ نَبِيَّهُ في هذه الآيةِ الكريمةِ (١)، أن هذا الذي جَرَى عليه جرى على إخوانِه وآبائِه من الرسلِ الكرامِ، كإبراهيمَ وإسماعيلَ، يعنِي: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما جَعَلْنَا لك أعداءً كفرةً من قومِك يُعَادُونَكَ ويهمُّون بِقَتْلِكَ وإخراجِك وحبِسك كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾ من الأنبياءِ ﴿عَدُوًّا﴾ أي: أعداء، يعني لم يَبْقَ نَبِيٌّ إلا جَعَلَ اللَّهُ له أعداءً؛ لأَنَّ الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا كان خصومُ الحقِّ أعداءً له؛ ولذا تعرفونَ في حديثِ البخاريِّ المشهورِ: أن خديجةَ بنتَ خويلدَ (رضي الله عنها) لَمَّا ذَكَرَتْ أمرَ النبيِّ لورقةَ بنِ نوفلٍ، وقال للنبيِّ - ﷺ -: (ليتني جَذَع إِذْ يخرجُك قومُك أكون معكَ، فَأَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) لما قال له النبيُّ - ﷺ - في الحديثِ الصحيحِ المشهورِ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» أجابَه ورقةُ بقولِه: «لَمْ يأت بهذا الدين أحدٌ إلا عُودِيَ» (٢). لأن الحقَّ لا يأتِي به أحدٌ إلا عَادَاهُ خصومُ الحقِّ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، فهم أعداءٌ للحقِّ، وأعداءٌ لمن قَامَ بالحقِّ، كما قال جل وعلا.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٤) من سورة الأنعام.
(٢) البخاري، كتاب بدء الوحي، الباب: (٣)، حديث رقم (٣)، (١/ ٢٣)، وأخرجه في مواضع أُخَرَ، انظر الأحاديث: (٣٣٩٢، ٤٩٥٣، ٤٩٥٥، ٤٩٥٦، ٤٩٥٧، ٦٩٨٢)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله - ﷺ -، حديث رقم (١٦٠)، (١/ ١٣٩).
المتناقضة، والأقوال المتكاذبة، والأحكام التي ينفي بعضها بعضاً لا يشك عاقل في أنها ليست من عند الله. وأمثال هذا كثيرة.
ونحن نضرب مثلاً بهذه المسألة فنقول: إن الأئمة (رضي الله عنهم)، أبا حنيفة، وأحمد، والشافعي - رحمهم الله - الذين سخر ابن حزم من قياساتهم هم أولى بظواهر النصوص من نفس ابن حزم. ونقول لابن حزم مثلاً: أنت قلت: إنك مع الظاهر، وقلت:

أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي ظَاهِرِيّ وَأَنَّنِي عَلَى مَا بَدَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ (١)
فهذا الإمام الشافعي الذي قال: «إن علة الربا في البر: الطعم». استدل بحديث ثابت في صحيح مسلم، وهو حديث معمر بن عبد الله (رضي الله عنه)، الثابت في صحيح مسلم، قال: كنت أسمع رسول الله ﷺ يقول: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلاً بِمِثْلٍ... » الحديث (٢) فالشافعي فيما سخر منه ابن حزم أقرب لظاهر نصوص الوحي من ابن حزم. وكذلك الإمام أبو حنيفة وأحمد بن حنبل -رحمهما الله تعالى- اللذان قالا: «إن علة الربا في البر: الكيل» استدلاَّ بالحديث الثابت في الصحيح: «وَكَذَلِكَ المِيزان»؛ لأن النبي ﷺ لما ذكر المكيلات وبين أن الربا حرام فيها قال: «وكذلِكَ المِيزان». والتحقيق: أن الموزونات مثل المكيلات، فجعل معرفة القدر علة للربا. وقوله: «وكذلك الميزان» ثابت في الصحيحين (٣).
_________
(١) البيت في مطمح الأنفس لأبي نصر الإشبيلي صـ٢٨١، وفيات الأعيان (٣/ ٣٢٧)، سير أعلام النبلاء (١٨/ ٢٠٧)، وصدره: «ألم تر».
(٢) مسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام بالطعام مثلاً بمثل، حديث رقم (١٥٩٢)، (٣/ ١٢١٤).
(٣) البخاري في البيوع، باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (٢٢٠١، ٢٢٠٢)، (٤/ ٣٩٩)، وأطراف حديث (٢٢٠١)، في (٢٣٠٢، ٤٢٤٤، ٤٢٤٦، ٧٣٥٠)، وحديث (٢٢٠٢)، أطرافه في (٢٣٠٣، ٤٢٤٥، ٤٢٤٧، ٧٣٥١).
ومسلم في المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل. حديث رقم (١٥٩٣)، (٣/ ١٢١٥)، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
يبغونكم سوء العذاب، كما تقول لمن طلب السلعة: سامها. والعلماء يقولون: سامه كذا: إذا أذاقه إِيَّاهُ، ومنه: سَامَهُ العَذَاب: إذا أذاقه العذاب وكلَّفَهُ إيَّاهُ. وهو مَعْنى مشهور في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن كلثوم في معلقته (١):
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ الناسَ خَسْفًا أَبَيْنَا أنْ نُقِرَّ الذُلَّ فِينَا
ومعنى ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾: يذيقونكم ويكلفونكم سوء العذاب، والإضافة في قوله: ﴿سُوءَ الْعَذَابِ﴾ من إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي: يذيقونكم العذاب الموصوف بسوء من يقع عليه؛ أي: العذاب السيئ الشديد.
﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ﴾ قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع: ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ﴾ وقرأه نافع وحده: ﴿يَقْتُلون أبناءكم﴾ بسكون القاف وضم التاء (٢). وقرأ مع نافع ابن كثير: ﴿سَنَقْتُلُ أبناءهم﴾ (٣) [الأعراف: آية ١٢٧] والجمهور يقرءون: ﴿سَنُقَتِّلُ﴾ و ﴿يُقَتِّلُونَ﴾ بصيغة التضعيف؛ لأن التضعيف يدل على التكثير، يقتل أولادهم كثيرًا. وهذا معنى قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ﴾ أي: إناثكم يتركوهن حيات.
وفي هذه الآية الكريمة ونظائرها في القرآن سؤال معروف، وهو أن التحقيق في قوله: ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ﴾ كأنه بدل من قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ﴾ [الأعراف: آية ١٤١]
_________
(١) تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٤.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٣.
وذَرَارِيهِمْ. فأخبره ﷺ أن هذا حكم الله فيهم من فَوْقِ سَبْعِ سَماوات (١)؛
لأنهم الذين نَزَلَ فيهم؛ ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾. وكان بعض العلماء يقول: كل هذه الآيات نازلة في كفار مكة؛ لأن هذه السورة كلها في وقعة بدر، والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٧].
ثم قال تعالى معلماً نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله (جل وعلا) علم نبيه ﷺ في هذه السورة الكريمة تَعَالِيمَ عظيمة، وهي كلها تعاليم من أصول الجهاد، علمه الثبات والصمود أمام العدو، وعلمه فيها الاتصال بخالق السماوات والأرض عند التحام الصفوف، وعَلَّمَهُ كيف يخيف أعداءه بشدة الوقيعة فيمن قدر عليهم، وعَلَّمَهُ هُنَا كَيْفَ يُصَالحُهم، وكيف ينبذ صلحهم، كل هذه تعاليم جِهَادِيَّة عسكرية من رب العالمين (جل وعلا) للنَّبِيِّ وأصْحَابِهِ؛ لأن هذا المحكم المنزل
_________
(١) خبر حُكْمِ سَعْدِ بن معاذ في بني قريظة مُخَرَّجٌ في الصحيحين من حديث:
١ - عائشة (رضي الله عنها) عند البخاري في الصلاة، باب الخيمة في المسجد للمَرْضَى وغيرهم، حديث رقم: (٤٦٣) (١/ ٦٦٣)، وأطرافه في (٣٩٠١، ٤١١٧، ٤١٢٢). ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال مَنْ نَقَضَ العَهْدَ... ، حديث رقم: (١٧٦٩) (٣/ ١٣٨٨).
٢ - أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في المغازي، باب مرجع النبي ﷺ من الأحزاب. حديث رقم: (٤١٢١) (٤/ ٤١١). ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قِتَالِ مَنْ نَقَضَ العَهْدَ... ، حديث رقم: (١٧٦٨) (٣/ ١٣٨٨). إلا أن الحديث الذي في الصحيحين مختصر، وهو بسياقه الطويل مخرج في المسند (٦/ ١٤١ - ١٤٢)، وذكره ابن هشام في السيرة (٣/ ١٠٣١)، وابن كثير في تاريخه (٤/ ١٠٣).


الصفحة التالية
Icon