وَرُبَّ أَسِيلَةِ الخَدَّيْنِ بِكْرٍ مُهَفْهَفَةٍ لَهَا فَرْعٌ وجِيدُ
أي: لها فرعٌ فَاحِمٌ، وجيدٌ طويلٌ. ومن هذا القبيلِ قولُ عبيدِ بنِ الأبرصِ الأسديِّ (١):
مَنْ قَوْلُهُ قَوْلٌ وَمَنْ فِعْلُهُ فِعْلٌ ومَنْ نَائِلُهُ نَائِلُ
يعني: مَنْ قولُه قولٌ فَصْلٌ، ومن فِعْلُهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ، ومن نائله نائلٌ جزلٌ. فحذفَ النعوتَ لدلالةِ المقامِ عليها، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ، وإن ذَكَرَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ أن حذفَ النعتِ قليلٌ حيث قال (٢):
وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ
وهذا معنى قولِه: ﴿قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ أي: جئتَ في الوقتِ الأخيرِ بالحقِّ الذي لا يتركُ في هذه البقرةِ لَبْسًا، ولا يتركها تَتَشَابَهُ مع غيرِها من البقرِ؛ لأنه مُيِّزَتْ بصفاتِها الكاشفةِ التي تفصلها وتميزها عن غيرها.
ويؤخذُ من هذه الآيةِ الكريمةِ جوازُ السَّلَمِ في الحيواناتِ (٣)، وأنها تنضبط بصفاتِها الكاشفةِ حتى تصيرَ كالمرئيةِ؛ لأن هؤلاء الناسَ لا يوجدُ ناسٌ أَشَدُّ منهم تَعَنُّتًا، فاضطرتهم الصفاتُ الكاشفةُ إلى أن اعترفوا بأن هذه البقرةَ ظَهَرَتْ صفاتُها وَتَمَيَّزَتْ عن غيرِها، ويدلُّ لهذا قولُ النبيِّ - ﷺ -: «لاَ تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ
_________
(١) ديوان عبيد بن الأبرص ص١٠٠.
(٢) الخلاصة ص٤٥، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٧٤).
(٣) انظر: الأم للشافعي (٣/ ١١٧)، أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٢٦)، الإنصاف (٥/ ٨٥).
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)} [الأنعام: الآيات ١١٢ - ١١٥].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (١١٢)﴾ [الأنعام: آية ١١٢].
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ - ما لاَقَى النبيُّ - ﷺ - من أذَى المشركين ومن عداوتِهم وعدمِ انقيادِهم إليه - كما قَدَّمْنَا في قولِه: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ إلى قولِه: ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ﴾ [الأنعام: الآيات ٣٣ - ٣٥] أي: إن استعطتَ ذلك فَافْعَلْ - بَيَّنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - ﷺ - في هذه الآيةِ الكريمةِ أنه ما أرسلَ نَبِيًّا من الأنبياءِ إلا جَعَلَ له أعداءً كفرةً فجرةً من شياطينِ الإنسِ والجنِّ، والقصدُ من هذا تسليةُ النبيِّ - ﷺ -؛ لأن ما لُوقِيَ به من العداوةِ إذا كان قد لاَقَاهُ إخوانُه الكرامُ من الرسلِ الكرامِ هوَّن ذلك الأمر عليه، كما قال له: ﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [فصلت: آية ٤٣] ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ [الأنعام: آية ٣٤] ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: آية ٣٥] ونحو ذلك من الآياتِ.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما جَعَلْنَا لكَ أعداءً كفرةً من كفارِ قريشٍ يُعَادُونَكَ ويناصبونَك العداوةَ، كذلك الجعل ﴿جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾ من الأنبياءِ قَبْلَكَ ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ جعلناهم عَدُوًّا للأنبياءِ، وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا في الفرقانِ حيث قال:
وفي حديث حيان بن عبيد الله الذي أخرجه الحاكم في مستدركه، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن أبي سعيد الخدري لما ذكر الستة التي يحرم فيها الربا قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَكَذلِك كُلّ ما يُكَال أو يُوزَن» (١). وهذا الحديث حاول ابن حزم تضعيفه من ثلاث جهات، وقد ناقشناه في الكتاب الذي كتبنا على القرآن مناقشة وافية (٢). والتحقيق: أن حيان بن عبيد الله ليس بمجروح، وأن زعمه أن أبا مجلز الذي روى عنه الحديث لم يلق ابن عباس أنه كذب، وأنه أدرك ابن عباس وأبا سعيد الخدري (رحمهم الله)، وأن الحديث لا يقل عن درجة القبول بوجه من الوجوه عند المناقشة الصحيحة كما بَيَّنَّاهُ في الكتاب الذي كَتَبْنَا في القرآن، وهذا الحديث قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «وكذلك كل ما يُكَالُ أو يُوزَن». وهذا أقرب لظاهر نص النبي ﷺ من ابن حزم الذي يسخر من أبي حنيفة والإمام أحمد -رحمهما الله- وليس قصدُنا في هذا الكلام أن نتكلم على ابن حزم؛ لأنه رجل من علماء المسلمين، وفحل من فحول العلماء، إلا أن له زلات، ولا يخلو أحد من خطأ، ومقصودنا أن نبين لمن نظر كتب ابن حزم فقط أن حملاته على الأئمة
_________
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك (٢/ ٤٢ _ ٤٣)، وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ وتعقبه الذهبي بقوله: «حيان فيه ضعف وليس بالحجة» اهـ.
(٢) انظر: أضواء البيان (١/ ٢٤٠).
فتقتيل الأبناء واستحياء النساء هو من نفس سوء العذاب الذي كان يسومهم. ووجه السؤال هو أن يُقال: أما تقتيل الأبناء فكونه من العذاب الذي يسومهم به [فظاهر] (١)، وأما استحياء النساء فمن أين كان يُعد من جملة العذاب الذي يسومهم؛ لأن استحياءها قد يسبق إلى الذهن إنه خير من موتها، وأن بقاء أحد الولدين خير من موتهما جميعًا، والإناث هبة من الله أيضًا، كما قال تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾ [الشورى: آية ٤٩] فوجه السؤال: كيف عدّ استحياء النساء من جملة العذاب الذي يسومهم، مع أن ترك قتلهم أهون، كما قال (٢):
حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا | خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ |
وأجاب بعض العلماء عن هذا السؤال: بأن استحياء الأُنثى قد يكون خيرًا (٣) [من تذبيح الكل، كما قال الهذلي:
حَمِدْتُ إِلَهِي بَعْدَ عُرْوَةَ إِذْ نَجَا | خِرَاشٌ وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ |
_________
(١) ما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
(٣) في هذا الموضع ذهب بعض التسجيل، وتجد جواب هذا السؤال فيما مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة وما بين المعقوفين نقلته منه (بتصرف).
ينير معالم الطريق في جميع ميادين الحياة كائنة ما كانت؛ ولذا قال: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ [الأنفال: الآية ٥٨] ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ﴾ كقوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ [الأنفال: الآية ٥٧] فهي (إن) الشرطية زيدت بعدها (ما) لتوكيد الشرط. وبعض علماء العربية يقول: إن (إِنْ) الشرطية إذا زِيدَتْ بعدها (ما) المؤكدة وجب اقتران المضارع بنون التوكيد، وهو كذلك في القرآن، ما جاء في القرآن (إما) إلا والفعل المضارع بعدها مُؤَكَّدٌ بِنُون التَّوْكِيد الثقيلة (١)، إلا أن التحقيق أنها هي اللغة الفصحى ولا تتعين، فيجوز عدم توكيد الفعل بعد (إما) (... ) (٢) وكقول لبيد بن ربيعة (٣):
فَإِمَّا تَرَيْنِي الْيَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً | فَلَسْتُ بِأَحْظَى مِنْ كلاب وَجَعْفَرِ |
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ | يَسْدُد أُبينُوها الأَصَاغِرُ خلَّتِي |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف.
(٢) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل. ويظهر أن الشيخ (رحمه الله) ذكر بعض الشواهد الشعرية. ويمكن الوقوف على الكلام على هذه المسألة بشواهدها في كتاب شرح الكافية (٣/ ١٤٠٩ - ١٤١٠)، وفي كلام الشيخ (رحمه الله) فيما سبق عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف.
(٤) السابق.