إِلَيْهَا» (١). فَبَيَّنَ - ﷺ - أن الصفاتِ الكاشفةَ تقومُ مقامَ النظرِ؛ لأنها تُعَيِّنُ الموصوفَ. وهذا دليلٌ واضحٌ لِمَا ذَهَبَ إليه جمهورُ العلماءِ من السلفِ في الحيواناتِ إذا بُيِّنَتْ صفاتُها؛ لأن الوصفَ يَجْعَلُهَا كالمرئيةِ ويضبُطها. خلافًا للإمامِ أبي حنيفةَ (رحمه الله) الذي مَنَعَ السَّلَمَ في الحيواناتِ بناءً على أنها لا تنضبطُ صفاتُها (٢). ومما يؤيد السَّلَمَ فيها - خلافًا للإمامِ أبِي حنيفةَ (رحمه الله): ما ثَبَتَ عن النبيِّ - ﷺ - أنه اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَرَدَّ رباعيا (٣)، وكما دَلَّتْ عليه هذه النصوصُ.
قال بعضُ العلماءِ: ويؤخذُ من هذه القصةِ أيضًا جوازُ النسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ؛ لأن قولَه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ نكرةٌ في سياقِ الإثباتِ، والنكرةُ في سياقِ الإثباتِ إطلاقٌ، فلو ذَبَحُوا أَيَّ بقرةٍ كانت لَصَدَقَتْ باسمِ تلك البقرةِ المطلقةِ، وَلأَجْزَأَتْهُمْ، ولَمَّا شَدَّدُوا نَسَخَ اللَّهُ الاكتفاءَ ببقرةٍ مجردةٍ أَيَّةً كانت إلى بقرةٍ موصوفةٍ بصفاتٍ منعوتةٍ بنعوتٍ كثيرةٍ شديدةٍ. ومن هنا قال بعضُ العلماءِ (٤): هذه من الأدلةِ على النسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ. وقال بعضُ العلماءِ: هذا لا يصلحُ مِثَالاً للنسخِ قبلَ التمكنِ من الفعلِ؛ لأن هذا
_________
(١) أخرجه البخاري في النكاح، باب: لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، حديث رقم: (٥٢٤٠ - ٥٢٤١)، (٩/ ٣٣٨)، بلفظ: «لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها». واللفظ الذي ذكره الشيخ (رحمه الله) وهو لفظ الحديث عند الطبراني في الكبير، رقم: (١٠٢٤٧)، (١٠/ ١٧٣) مع اختلاف يسير.
(٢) انظر: بدائع الصنائع (٥/ ٢٠٩)، القرطبي (١/ ٤٥٣).
(٣) مسلم، كتاب المساقاة، باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه، حديث رقم: (١٦٠٠)، (٣/ ١٢٢٤).
(٤) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٨)، البحر المحيط (١/ ٢٥٨).
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: آية ٣١]، فَبَيَّنَ أن أعداءَ الأنبياءِ هم المجرمونَ، وهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ.
وقرأ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عَدَا نَافِعًا وحدَه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾ بالإدغامِ. وقرأه نافعٌ وحدَه بروايةِ ورشٍ وقالونَ: ﴿جعلنا لكل نبيءٍ عدوًّا﴾ ونافعٌ يقرأُ جميعَ ما في القرآنِ من النبيءِ والأنبئاءِ كُلَّهُ بالهمزةِ في روايةِ ورشٍ، وكله بالهمزةِ في روايةِ قالونَ عن نافعٍ، إلا حَرْفَيْنِ في سورةِ الأحزابِ (١) (٢).
أما على قراءةِ نافعٍ: ﴿جعلنا لكل نبيءٍ﴾ فالنبيءُ مشتقٌّ من (النبأ) (٣)، والنبأُ: الخبرُ الذي له خَطْبٌ وشأنٌ، وإنما قيل للنبيءِ (نبيءٌ) لأنه يُوحَى إليه، والوحيُ: خبرٌ له خَطْبٌ وشأنٌ، فكل نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خبرٍ نبأً؛ لأن العربَ لا تُطْلِقُ النبأَ إلا على الخبرِ الذي له شأنٌ وَخَطْبٌ، أما الخبرُ فتطلقُه على الحقيرِ والجليلِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأُ الأميرِ، وجاءنا نبأٌ عن الجنودِ، وعن الأمورِ العظامِ. كان هذا من كلامِ العربِ، فلو قلتَ: جاءنا نبأٌ عن حمارِ الحجامِ. لم يكن هذا من كلامِ العربِ؛ لأن قصةَ حمارِ الحجامِ لا خَطْبَ لها ولا شأنَ، فلا يُعبَّرُ عنها بالنبأِ، وإنما يُعَبَّرُ عنها بالخبرِ (٤).
_________
(١) وهما الآيتان (٥٠، ٥٣).
(٢) انظر: الكشف لمكي (١/ ٢٤٣ - ٢٤٤)، الإقناع لابن الباذش (١/ ٤٠٣)، النشر (١/ ٤٠٦)، إتحاف فضلاء البشر (١/ ٣٩٥) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: الكشف لمكي (١/ ٢٤٤) إتحاف فضلاء البشر (١/ ٣٩٥).
(٤) مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام.
أن الغلط معه فيها لا معهم، وأنهم أقرب للصواب، وأولى به منه، وأعلم منه، وأكثر علماً وورعاً منه، فهم لا يحملون على أحد، ولا يعيبون أحداً.
والحاصل أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق أمر لا شك فيه، وأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، والله (جل وعلا) قد بين نظائر في القرآن كثيرة يُعلم بها إلحاق النظير بالنظير. والنبي ﷺ أرشد أمته إلى ذلك في أحاديث كثيرة (١)، فمن ذلك: أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما سأل النبي ﷺ عن القُبْلة للصائم، فقال له: «أرَأَيْتَ لو تمَضْمَضْت» (٢)؟! فهذا إشارة من النبي ﷺ إلى قياس المضمضة على القُبْلة بجامع أن القُبْلة مقدمة الجماع، وأن المضمضة مقدمة الشرب، فكل منهما مقدمة الإفطار وليست بإفطار. فمحل كون القُبْلة كالمضمضة: إذا كان صاحبها لا يخرج منه شيء، أما إذا كانت القبلة تخرج منه شيء فهو كالذي إذا تمَضْمَضَ ابتلع شيئاً من الماء، فحكمه حكمه، وكذلك ثبت عن النبي ﷺ في أحاديث متعددة ثابتة في الصحيحين: أنه سأله رجل مرة، وامرأة مرة، عن دَين يقضيانه على ميت لهما، مرة تقول: أبي، ومرة تقول: أمي. وكذلك الرجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتِ لو كان على أمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ؟» قالت: نعم. قال: «فدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى» (٣). هو تنبيه منه ﷺ على قياس دَين الله على دَين الآدمي. بجامع أن الكل حق يطالب به الإنسان، وأنه يقضى عنه بدفعه
_________
(١) انظر: جواب ابن حزم عن مثل هذه الأدلة في الإحكام ص٩٦٦، فما بعدها.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
عدو لا يشفق عليها، ويفعل بها ما لا يليق، ويكلّفها ما لا تطيق أن هذا من سوء العذاب، وقد قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ... ﴾ الآية [النساء: الآية ٩] (١) وهذا معروف، وقد كان العرب إنما وأدوا بناتهم وفعلوا ذلك الفعل القبيح يخافون أن تبقى بعدهم فيهينها الناس، أو يتزوجها غير الأكفاء، فإهانة البنت وفضيحتها عَذَاب عَلَى وَلِيِّهَا؛ ولذا كان العرب يَتَمَنَّوْنَ الموت لبناتهم خوفًا مِنَ العَار، وخوفًا من الأذيّة والفضيحة والاضطرار لتزويج غير الأكفاء. وهذا كثير معروف في كلامهم، وكان شيخ كبير له بنت تُسمى (مودّة) كان يقول فيها (٢):
مَوَدَّةُ تَهْوَى عُمْرَ شَيْخٍ يَسُرُّهُ... لها المَوْتُ قَبْلَ اللَّيْلِ لَوْ أَنَّهَا تَدْرِي...
يَخَافُ عَلَيْهَا جَفْوةَ النَّاسِ بَعْدَهُ | وَلاَ خَتَنًا يُرْجَى أَوَدُّ مِنَ الْقَبْرِ |
إِنِّي وَإِنْ سِيقَ إِلَيَّ المَهْرُ... أَلْفٌ وَعُبدَانٌ وذَوْدٌ عَشْرُ...
أَحَبُّ أَصْهَارِي إِلَيَّ الْقَبْرُ
وفي شعر الحماسة (٤):
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَها شَفَقًا | وَالمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الحُرَمِ |
_________
(١) نهاية الانقطاع.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٩) من سورة البقرة.
(٣) السابق.
(٤) السابق.
ومعنى قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾ نزلت هذه الآية الكريمة في بني قريظة، قال بعض العلماء: في هذه الآية إشكال معروف؛ لأن قوله: ﴿تَخَافَنَّ﴾ الخوف يطلق على الظن الذي لا يستلزم اليقين، والعهد شيء مؤكد مُتَيَقَّن، فكيف يَنْتَقِل عَنْ حُكْمِ يقين العهد إلى ظن نقض العهد، والقاعدة المُقَرَّرَة في الأصول: أن اليقين لا يرتفع بالشك (١)؟
وأجاب العلماء عن هذا بجوابين (٢):
أحدهما: هو -ما قدمنا مراراً- أن العَرَبَ رُبَّمَا أطلقت الخوف وأرَادَتْ بِهِ العلم، كقوله: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٩]. علمتم من قرائن أحوالهما ألا يقيما حدود الله. ﴿إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ﴾ أي: يعلما ألا يقيما حُدُودَ الله. ولا شك أن العرب تطلق الخوف على العلم اليقين، ومن شواهده قول أبي محجَن، مالك بن حبيب الثقفي (٣):
إذا مِتُّ فادفنِّي إلى جَنبِ كَرْمَةٍ... تُرَوِّي عِظامي في المماتِ عُرُوقُها...
وَلاَ تدفنني بالفَلاة فَإِنَّنِي | أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لا أذوقُها |
_________
(١) انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص٥٣، القواعد الفقهية الخمس الكبرى من مجموع فتاوى ابن تيمية ص١٨٧، شرح القواعد الفقهية للزرقا ص٣٥.
(٢) انظر: القرطبي (٨/ ٣١).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام.