حُكْمٌ زِيدَتْ فيه صفاتٌ، ولم ينسخ ذبحُ البقرةِ بالكليةِ، بل بَقِيَ مُحْكَمًا، وإنما زِيدَتْ في البقرةِ صفاتٌ.
وأجابَ القائلون بأنه نسخٌ قالوا: زيادةُ هذه الصفاتِ تَضَمَّنَ نَسْخًا في الجملةِ؛ لأن مضمونَ النصِّ الأولِ يدلُّ على أن كلَّ بقرةٍ ذُبِحَتْ كائنةً ما كانت ولو مجردةً عن تلك الصفاتِ [أَجْزَأَتْ] (١)، فَوَصْفُهَا بالصفاتِ الآتيةِ الجديدةِ نَسَخَ الاجْتِزَاءَ بأي بقرةٍ كانت. وعلى كل حالٍ فهذه مسألةٌ أصوليةٌ هي- مثلاً -: هل يجوزُ النسخُ قبلَ التمكنِ من الفعلِ أو لا يجوزُ (٢)؟ والجماهيرُ من العلماءِ على أنه جائزٌ وواقعٌ، ومن أمثلتِه: نَسْخُ خمسٍ وأربعينَ صلاةً ليلةَ الإسراءِ بعدَ أن فُرِضَتْ خمسين، ونُسِخَ منها خمسٌ [وأربعون] (٣)، ثم أُقِرَّتْ خَمْسًا. ومن أمثلتِه قولُه (جل وعلا) في إبراهيمَ فى قصةِ ذبحِ إبراهيمَ لولدِه: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: آية ١٠٧] لأنه أَمَرَهُ أن يذبحَ ولدَه، ونسخَ عنه هذا الأمرَ قبلَ التمكنِ من الفعلِ.
والتحقيقُ أن هذا جائزٌ وواقعٌ. ولا شكَّ أن فيه سؤالاً معروفًا، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: إذا كان الحكمُ يُشْرَعُ وَيُنْسَخُ قبلَ العملِ فما الحكمةُ في تشريعِه الأولِ إذا كان يُنْسَخُ قبلَ أن يُعْمَلَ به؟
الجوابُ: أن التحقيقَ أن حِكْمَةِ التشريعِ منقسمةٌ قسمةً ثنائيةً،
_________
(١) في الأصل: لأجزأت.
(٢) انظر: المستصفى (١/ ١١٢)، البحر المحيط للزركشي (٤/ ٨١)، شرح الكوكب (٣/ ٥٣١)، شرح مختصر الروضة (٢/ ٢٨١، ٣٠٩)، مجموع الفتاوى (١٤/ ١٤٦، ١٤٧)، نثر الورود (١/ ٣٤٨)، المذكرة ص٧٣.
(٣) في الأصل: وأربعين.
أما على قراءةِ الجمهورِ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ﴾ بالإدغامِ ففيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ:
أحدُهما: أن أصلَه من (النبأِ)، إلا أن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، وَأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ. وعليه فالقراءةُ بالنبيءِ والنبيِّ كالقراءتين السبعيتين: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾ [التوبة: آية ٣٧] ﴿إنما النسيّ زيادة في الكفر﴾ (١) وعلى هذا التأويلِ فمعنَى قراءةُ الجمهورِ كمعنَى قراءةِ نافعٍ.
الوجهُ الثاني: أن النبيَّ على قراءةِ الجمهورِ ليس اشتقاقُه من (النبأ) بمعنَى الخبرِ، وإنما هو من (النَّبْوَةِ) بمعنَى الارتفاعِ (٢) لارتفاعِ شأنِ النبيِّ، وعلى هذا التفسيرِ فأصلُ النبيِّ على قراءةِ الجمهورِ ليس بمهموزٍ، والأظهرُ أن أصلَه مهموزٌ، وأن الهمزةَ أُبْدِلَتْ ياءً، بدليلِ قراءةِ نافعٍ بالهمزةِ.
وقولُه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا﴾ اختلفَ العلماءُ في إعرابِ قولِه: ﴿عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ فذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن ﴿عَدُوًّا﴾ و ﴿شَيَاطِينَ﴾ هُمَا المفعولانِ لـ ﴿جَعَلْنَا﴾. أي: جَعَلْنَا ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ أعداءً، أي: صَيَّرْنَاهُمْ أعداءً لكل نبيٍّ. وعلى هذا فتكونُ ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ﴾ هو المفعولُ الأولُ، وقولُه: ﴿عَدُوًّا﴾ هو المفعولُ الثاني. و (جعل) هنا هي التي بمعنَى: (صيَّر).
_________
(١) انظر: الكشف لمكي (١/ ٥٠٢)، الإقناع لابن الباذش (١/ ٤٠٤)، النشر (١/ ٤٠٥)، إتحاف فضلاء البشر (٩١١٢).
(٢) انظر: الكشف لمكي (١/ ٢٤٥)، زاد المسير (١/ ٩٠).
لمستحقه. وأمثال هذا كثيرة. ومن أصرحها: ما ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ جاءه رجل، كان الرجل أبيض، وامرأته بيضاء، وولدت له غلاماً أسود، فأصاب الرجل جَزَعٌ مِنْ سَوَادِ الغُلامِ، وظن أنها زَنَتْ بِرَجُلٍ أسْوَد وجاءت منه بهذا الولد، فجاء للنبي ﷺ مُنْزَعِجاً وأَخْبَرَهُ أنها جاءت بولد أسْوَدَ، وكان يريد أن يلاعنها وينفي عنه الولد باللّعَانِ زَعْماً أن هذا الولد مِنْ زَانٍ أسود، وأنه ليس ولده؛ لأنه هو أبيض وزوجته بيضاء. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قال: نعم.
قال: «مَا أَلْوَانُهَا؟» قال: حمر الألوان. قال: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَق؟» (والأورق المتصف بلون الوُرْقة، والوُرْقة لون كلون حمام الحرم، يعني: سواد يعلوه بياض يكون في الإبل) قال الرجل: إن فيها لوُرْقاً؟ قال: «وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا تِلْك الوُرقة؟» آباؤها حمر وأمهاتها حمر، فمن أين جاءتها الوُرقة؟ قال: لعل عرقاً نزعها! قال له: «وهَذَا الوَلَدُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ» (١). فاقتنع الأعرابي. وهذا إلحاق نظير بنظير، وبالجملة فنظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، وهذا مما لا يُشك فيه، وأن القياس منه قياس صحيح لا شك فيه كالأمثلة التي ذكرنا، ومنه قياس فاسد، والقرآن ذكر بعض الأقيسة الفاسدة، وبعض الأقيسة الصحيحة، فمن الأقيسة الصحيحة في القرآن قوله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩)﴾ [آل عمران: آية ٥٩] كما اليهود قالوا: إن عيسى لا يمكن أن تَلِدَهُ مَرْيم إلا مِنْ رَجُلٍ زَنَى بها، وقالوا لها: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (٢٨)﴾ [مريم: آية ٢٨] وهذا الولد لا بد أن يكون له والد، وهذا الوالد رجل فَجَرْتِ معه وزنيتِ به. فالله (جل وعلا)
_________
(١) السابق.
العذاب (١)، ولا شك أن الرجل المسلم إذا خُيّر بين أن يقبض الله ابنته إليه ويسترها برحمته وعفوه، وبين أن تبقى تحت يد الكفرة الفجرة يفعلون بها ما يشاءون من الفواحش والعار والعيب والشنار، ويُعملونها بالأعمال الشاقة والخدمة العظيمة والإهانة، أنه يختار لها ما عند الله، أنها تصير إلى الله، وأن بقاءها بعده فيه تعذيب لقلبه، حتى إن الإنسان إذا كانت بناته بعده تجوع أو تعرى يألم من ذلك ويحزن كما قال الحماسي (٢):
لقد زَادَ الحياةَ إلي حُبًّا... بناتي، أنهن من الضِّعَافِ...
فأكره أن يَرَيْنَ البُؤسَ بعدي... وأنْ يشربن كدرًا بعد صافي
ولا سيما التعذيب والفواحش ونحو ذلك والعياذ بالله، وهذا معنى قوله: ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)﴾ الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكُم﴾ مرجعها فيه وجهان معروفان (٣):
أحدهما: أنها راجعة إلى الإنجاء: أنجيناكم وفي ذلك الإنجاء بلاء، أي: بلاء بالنعمة من الله عظيم عليكم.
القول الثاني: أن الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكُم﴾ راجعة إلى ما يسومهم من سوء العذاب من تقتيل الأبناء، وعليه فقوله: ﴿بَلاَءٌ﴾
_________
(١) السابق.
(٢) البيتان لعمران بن حطان، وقيل لعيسى بن فاتك، أو محمد بن عبد الله الأزدي، أو لأبي خالد القناني. وهما في تاريخ دمشق (٤٣/ ٥٠٠)، عيون الأخبار (٣/ ٩٧)، الكامل ص١٠٨٢، وطرف البيت الثاني: «مخافة... »، وشطره الثاني: «وأن يشربن رَنْقًا... ».
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٣٨٧)، الدر المصون (١/ ٣٤٨).
إن تَخَافَنَّ مِنْ هَؤُلاء القوم الذين كانت بينك وبينهم عهود تخافن منهم خيانة، أي: خيانة بنقض تلك العهود بأن يخونوك وينقضوا العهود. و (ياء) الخيانة مبدلة من واو؛ لأن أصل مادة الخيانة أجوف واوي العين، مِنْ: خَانَ يَخُون. أصلها: (خِوَانَة) فأبدلت الواو ياء (١)، كالحيازة من الحَوْز، والصيانة مِنَ الصَّوْنِ، والصّيَام من الصوم. إن تخف يعني مِنْ قَوْم بينك وبينهم عهود ومواثيق تخف منهم خيانة، أي: غدراً ونقضاً للعهود ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾ يعني بأن يكون خوف الخيانة ظهرت له أمارات ومبادِئ وقرَائِن يُسْتَدَل بها عليه، كما ظهر من بني قريظة أنهم لما عاضدوا المشركين وناصروهم ولم يصرحوا بنبذ العهد كانت مناصرة المشركين ومعاضدتهم قرائن واضحة وأمارات لائحة على أنهم ناقضون للعهد.
وعلى كل حال فالَّذِي دل عليه استقراء القرآن ودلت عليه الوقائع -وهو الصحيح إن شاء الله- أن الأمر له حالتان: تارة يكون الكفار الذين بيننا وبينهم عهد ومصالحة تصدر منهم أشياء تدل على نَقْضِ العَهْدِ، لِدلالة قَرَائِن على ذلك، أنهم صدرت منهم مَبَادِئ نقض العهد، ففي هذه الحالة لا ينبغي للإمام أن يَبْقَى على عهدهم وقد ظهر له منهم أمارات الخيانة؛ لئلا يصيبوا المسلمين بِغَائِلة، ففي هذه الحالة يجب على الإمام أن يصارحهم ويقول لهم: رأينا منكم ما يدل على نقضكم العهد وهو كذا وكذا وكذا، فهذا عهدنا إليكم قد طَرَحْنَاهُ إِلَيْكُمْ، ونَبَذْنَاه إليكم، وألقيناه إليكم، وأعْلَمْنَاكُمْ أنَّهُ لَيْسَ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ عَهْد، خَوْفَ أنْ تَظُنّوا أنَّا نخدعكم ونكيدكم ونُحَارِبُكُمْ
_________
(١) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص١٠٤.