وهي دائرةٌ بين الامتثالِ والابتلاءِ (١). فإذا نُسِخَ الحكمُ بعدَ العملِ به فحكمتُه الامتثالُ وقد امْتُثِلَ، وإذا نُسِخَ قبلَ العملِ به فحكمةُ تشريعِه الأولِ الابتلاءُ، وهو اختبارُ الخلقِ هل يتهيؤون للامتثالِ؟ وقد وقعَ الابتلاءُ، وقد نصَّ اللَّهُ (جل وعلا) في قصةِ إبراهيمَ على أن الحكمةَ في أمرِه بذبحِ ولدِه - مع أن اللَّهَ يعلمُ أنه لا يُمكِّنُه من ذلك - هو الابتلاءُ هل يتهيأُ ويطيعُ رَبَّهُ في أن يذبحَ ثمرةَ قلبِه؟ كما قال جل وعلا: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: آية ١٠٣]، يعني: تلَّه للجبينِ لينفذَ فيه الذبحَ حتى - مثلا - قَالَ له رَبُّهُ: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: الآيتان ١٠٤ - ١٠٥] وقال: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: آية ١٠٧] ثم إن اللَّهَ نصَّ على أن الحكمةَ الابتلاءُ في قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات: آية ١٠٦].
وقولُه جل وعلا: ﴿فَذَبَحُوهَا﴾ أي: فذبحوا البقرةَ، وضربوه بجزءٍ منها فَحَيِيَ، وأخبرَهم بقاتلِه كما يأتي.
وقوله: ﴿وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ يعني: ما كادُوا يذبحونها إلا بعدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ؛ لِمَا جاؤوا به دونَ ذَبْحِهَا من السؤالاتِ والتعنتاتِ.
وقولُ بعضِ العلماءِ: إنَّ (كَادَ) إذا كانت في الإثباتِ دَلَّتْ على النفيِ، وإذا كانت في النفيِ دَلَّتْ على الإثباتِ، وأن هذا يُلْغَزُ به: هو في الواقعِ غيرُ صحيحٍ (٢)، وَأَنَّ (كَادَ) فعلُ مقاربةٍ تدلُّ على مقاربةِ
_________
(١) انظر: نثر الورود (١/ ٣٤٨)، المذكرة (٧٣ - ٧٤).
(٢) في الكلام على (كاد) راجع: تفسير ابن جرير (١٨/ ١٥١)، تهذيب اللغة للأزهري (١٠/ ٣٢٩)، شرح الكافية لابن مالك (١/ ٤٦٦)، المساعد على تسهيل الفوائد (١/ ٣٠٣)، البحر المحيط (١/ ٢٥٨)، الكليات ص٧٤٩، القاموس (مادة: الكود) ص٤٠٣، الدر المصون (١/ ١٧٦)، الأشباه والنظائر للسيوطي (٣/ ٢٦)، التحربر والتنوير (١/ ٥٥٧ - ٥٥٩)، تفسير سورة النور للشيخ (رحمه الله) ص١٥٥، النحو الوافي (١/ ٦١٨).
الوجهُ الثاني من الإعرابِ: أن أحدَ المفعولين هو الجارُّ والمجرورُ في قولِه: ﴿لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾ والمفعولُ الثاني هو قولُه: ﴿عَدُوًّا﴾ وعليه فيكونُ إعرابُ ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ﴾ أنه بدلٌ من ﴿عَدُوًّا﴾ هذانِ الإعرابانِ في الآيةِ (١) و (جعل) هنا بمعنَى (صَيَّرَ) أي: صَيَّرْنَا شياطين الإنسِ والجنِّ أعداءً لكلِّ نبيٍّ من الأنبياءِ.
و (جعل) تأتِي في كلامِ العربِ على أربعةِ أنحاءَ (٢)، ثلاثةٌ منها في القرآنِ، والرابعُ موجودٌ في لغةِ العربِ وليسَ في القرآنِ:
الأولُ من الأقسامِ الأربعةِ: (جعل) التي بمعنَى (اعتقد) وهي تَنْصِبُ المبتدأَ والخبرَ مَفْعُولَيْنِ، وهي بمعنَى (اعتقدَ) ومنه قولُه: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾ [الزخرف: آية ١٩] وفي القراءةِ الأُخْرَى: ﴿الذينَ هم عند الرحمنِ إِنَاثًا﴾ (٣) المعنىَ: اعتقدوا الملائكةَ إناثًا. فـ (جعل) هذه بمعنَى (اعتقد) وهي تنصبُ مَفْعُولَيْنِ أصلُهما مبتدأٌ وخبرٌ.
الثاني: (جعل) بمعنَى (صيَّر) كهذه التي عندنا: ﴿جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ﴾ [الأنعام: آية ١١٢] أي: صَيَّرْنَا شياطينَ الإنسِ عدوًّا لكلِّ نَبِيٍّ. وهي أيضًا تنصبُ المبتدأَ والخبرَ مفعولين.
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ٦٧)، البحر المحيط (٤/ ٢٠٧)، الدر المصون (٥/ ١١٥)، أضواء البيان (٢/ ٢٠٨).
(٢) انظر: نزهة الأعين النواظر ص ٢٢٨، بصائر ذوي التمييز (٢/ ٣٨٣)، إصلاح الوجوه والنظائر ص ١٠٦، وراجع ما مضى عند تفسير الآية (١٠٠) من سورة الأنعام.
(٣) انظر: المبسوط لابن مهران ص ٣٩٨.
قاس لهم هذا الولد على آدم بجامع أن آدم وُلِدَ ولم يكن له أم ولا أب، خُلق ولم يكن له أم ولا أب، فالذي خَلَقَ آدَمَ ولمْ يَكُنْ له أب ولا أم فهو قادِرٌ على أن يخلق عيسى من أُمٍّ ولم يكن له أب، كما خلق حواء من ضلع رجل. فالله (جل وعلا) جعل خلق الإنسان قسمة رباعية: بعضٌ خلقه لا من ذكر ولا من أنثى وهو آدم، وبعض خلقه من أنثى دون ذكر وهو عيسى ابن مريم، وبعض خلقه من ذكر دون أنثى وهي حواء؛ لأن الله يقول: ﴿خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي: آدم ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: آية ١] والقسم الرابع: خلقه من ذكر وأنثى فقاس عيسى على آدم بجامع أن الذي أوجد آدم بقدرته يوجد عيسى بقدرته. وأمثال هذا كثيرة.
وكذلك قاس الموجودين في زمن النبي ﷺ على الأمم الماضية، وقال لهم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ثم بين إلحاق النظير بالنظير فقال: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد: آية ١٠] فكأن الموجودين في زمن النبي ﷺ فرع، والكفار المتقدمون أصل، والحكم الذي عمهم المهدد به: العذاب والهلاك، والعلة الجامعة: تكذيب الرسل، والتمرد على رب العالمين. وأمثال هذا في القرآن كثيرة.
وكذلك ما يسمونه: (قياس العلة) - وهو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة (١) - يكثر في القرآن جدّاً، كقوله جل وعلا: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى﴾ [فصلت: آية ٣٩] فقاس إحياء الموتى الذي ينكره منكرو البعث على إحياء الأرض المشاهد؛ لأن كلاًّ منهما إحياء.
_________
(١) انظر: المذكرة في أًصول الفقه ص٢٤٣، نثر الورود ص٤٤٢.
[الأعراف: آية ١٤١] أي: بلاء بالشر -والعياذ بالله- عظيم من ربكم.
والبلاء يكون بالخير ويكون بالشر كما هو معروف (١)، ﴿وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٦٨].
﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)﴾ [الأعراف: آية ١٤٢].
قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير أبي عمرو ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى﴾ بألف بين الواو والعين من المواعدة. وقرأه أبو عَمْرٍو وحْدَهُ: ﴿وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً﴾ من غير ألف بين الواو والعين (٢). ومعنى القراءتين واحد.
﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى﴾ صيغة الجمع في قوله: ﴿وَوَاعَدْنَا﴾ للتعظيم، كان الله وعد نبيه موسى أنه إن أهلك عدوه وأراح قومه من تعذيب فرعون وإهانته لهم أن الله يُنزل عليه كتابًا فيه شَرْعٌ تَامٌّ، وأوامِرُ ونواهٍ، وشريعة كاملة؛ وذلك الكتاب الموعود به هو التوراة، فلما جاوزوا البَحْرَ جَاءَ وقت الميقات فذهب موسى إلى الميقات، وكان أولاً ثلاثين، وقال لبني إسرائيل: إن الميقات ثلاثون فقط؛ لأنه ما كان يدري عن العشرة التي صار بها أربعين. والمفسرون يقولون: إن سبب العشرة: أن الله وعد موسى ثلاثين ليلة -يقول جماهير من أهل
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٢٩.
غَفْلَةً منكم. وهذا معنى قوله: ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾ النبذ في لغة العرب: الطَّرْح. ومفعول (انبذ) محذوف، أي: فاطرح إليهم عهدهم، وألقه إليهم في حال كونك أنت وهم ﴿عَلَى سَوَاء﴾ استواء في العلم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، ليس أحد منكما يدلس للآخر. وعلى هذا فقوله: ﴿عَلَى سَوَاء﴾ أي: في العلم؛ بأنك لست على صُلْحِكَ الأول لما رأيت مِنْ علامات غدرهم ونقضهم له.
قال بعض العلماء: فانبذ إليهم عَهْدَهُم حَالَ كَوْنِ ذلك النبذ على سواء. أي: على عدالة وطريقة محمودة؛ لأن العرب تسمي العَدَالَةَ (سواء)، وتسمي الطريق العدل الواضح (سواء) و (سويّاً) ومن هذا قول الراجز (١):

وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدَّرِ الأَعْدَاءِ حَتَّى يُجيبُوكَ إِلَى السَّوَاءِ
أي: إلى العدالة والإنصاف من غير مَيْلٍ وَلاَ جَوْرٍ. وهذا معنى قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ أي: إِنْ خِفْتَ يَا نَبِيَّ اللهِ خِيَانَة مِنْ قوم كان بينك وبينهم عهد بأن ظهرت لك أمارات الغدر وعلاماته وأوائله منهم ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ فاطرح إليهم، وألْقِ إليهم العهد في حال كونك وإياهم على ﴿سَوَاء﴾، أي: مستوين في العلم بالحالة الواقعة وأنه لا عهد بينك وبينهم. وقد جاء عن معاوية (رضي الله عنه) أنه كان بينه وبين الروم مصالحة وعهود ثم إنه (رضي الله عنه) سار إليهم وهم لا يشعرون ليقرب منهم، فإذا انقضت مدة العهد كان قريباً منهم فحمل عليهم، فإذا رجل على فرس له -وفي بعض روايات الحديث في السنن وغيرها- على دابة له، ذلك الرجل يقول: الله أكبر، الله أكبر،
_________
(١) البيت في ابن جرير (١٤/ ٢٧) القرطبي (٨/ ٣٣).


الصفحة التالية
Icon