حصولِ الخبرِ للمبتدأِ، وإذا نُفيت نُفيت المقاربةُ. يعني: ما قَارَبُوا أن يذبحوا. يعني في زمنِ التعنتِ والأسئلةِ، حتى انقضى زمنُ التعنتِ والأسئلةِ، في آخِرِ الأمرِ ذَبَحُوهَا، والقرينةُ على أن هذا المرادَ: أنه صرَّح بأنهم ذَبَحُوهَا ﴿فَذَبَحُوهَا﴾ يعني: في الآونةِ الأخيرةِ ﴿وَمَا كَادُوا﴾ قبلَ ذلك في الأزمانِ التي قَبْلَهُ ﴿يَفْعَلُونَ﴾ لِتَعَنُّتِهِمْ وكثرةِ سؤالاتهم وعدمِ امتثالِهم. وهذا معنى قولِه: ﴿فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾.
﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)﴾ [البقرة: الآيات ٧٢ - ٧٤].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: آية ٧٢] ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ﴾ معطوفٌ على قولِه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ [البقرة ة الآية ٦٧] وقوله: ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ﴾ هو أولُ القصةِ في الوقوعِ، ولكنه متأخرٌ في النزولِ (١) وترتيبِ القرآنِ على الظاهرِ، أي: وَاذْكُرُوا ﴿وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا﴾ هو القتيلُ المتقدِّمُ، قيل اسمُه: (عاميل) (٢). والعربُ تعبرُ عن الشخصِ بالنفسِ، تقول: (قَتَلَ
_________
(١) انظر: القرطبي (١/ ٤٤٥، ٤٥٥)، البحر المحيط (١/ ٢٥٨ - ٢٥٩).
(٢) مضى عند تفسبر الآية (٦٧) من سورة البقرة.
الثالث: (جعل) بمعنَى (خَلَقَ) وهي تنصبُ مفعولاً واحدًا، وهي التي تَقَدَّمَتْ في أولِ هذه السورةِ الكريمةِ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: آية ١] أي: خلقَ الظلماتِ والنورَ.
هذه الأقسامُ الثلاثةُ من معانِي (جعل) أعنِي كونَها بمعنَى (اعتقد)، وكونَها بمعنى (صيَّر)، وكونَها بمعنَى (خلق)، كُلُّهَا في القرآنِ العظيمِ.
أما معناها الرابعُ فهو في اللغةِ، وليس في القرآنِ، وهو إتيانُ (جعل) بمعنَى شَرَعَ في الأمرِ، كقولِهم: جَعَلَ فلانٌ يفعلُ كذا. أي: شَرَعَ يفعلُه. ومنه بهذا المعنَى قولُ الشاعرِ (١):

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا مَا قُمْتُ يُثْقِلُنِي ثَوْبي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وهذا معنَى قولِه أي: وكذلك الجعلُ الذي جَعَلْنَا لكَ يا نَبِيَّ اللَّهِ أعداءً من كفارِ قريشٍ في مكةَ ﴿وَكَذَلِكَ﴾ الجعلُ ﴿جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ﴾ قبلكَ من الأنبياءِ ﴿عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾.
في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقالَ: إن المرادَ: أعداءٌ؛ لأنهم شياطينُ الإنسِ والجنِّ، وهم جماعةٌ، وأعداءُ الرسلِ جماعاتٌ لاَ مفردٌ، وهنا قال: ﴿عَدُوًّا﴾ بصيغةِ المفردِ، ولم يَقُلْ: «وكذلك جعلنا لكل نبي أعداءً» بل قال: ﴿عَدُوًّا﴾ وجاءَ في القرآنِ إطلاقُ العدوِّ مُرَادًا به الجمعُ في آياتٍ متعددةٍ كقولِه: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ﴾ أي: أعداءٌ لكم.
_________
(١) البيت لعمرو بن أحمر، أو أبي حية، أو الحكم بن عبدل. وهو في الخزانة (٤/ ٩٤).
وهذا الإحياء للموجود يدل على قدرة قادر كاملة باهرة يقدر بها من اتصف بها على إحياء الموتى كما أحيا الأرض بعد موتها، وكما استدل (جل وعلا) بقياس الأولى على الأدنى، واستدل بأن من خلق السماوات والأرض لا يعجز عن خلق الإنسان الصغير الحقير بعد الموت، كما قال: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (٢٧) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (٢٩)﴾ الآية [النازعات: الآيات ٢٧ - ٢٩] وقال: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غافر: آية ٥٧]، ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر، وقال جل وعلا: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى﴾ [الأحقاف: آية ٣٣] وقاس النشأة الأخرى على النشأة الأولى فقال: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى﴾ [الواقعة: آية ٦٢] والإيجاد الأول، فهلا قستم عليه النشأة الأخرى والإيجاد الأخير، وعلمتم أن مَنْ قَدَر على الأول قادر على الثاني، كما قال: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: آية ٧٩] وأمثال هذا كثيرة جدّاً.
أما القياس الفاسد الذي بُني مخالفاً للنصوص كقياس إبليس لعنه الله، وكالأقيسة المخالفة للنصوص، وكأقيسة الشَّبَه المبنية على الفساد (١)، فإن الكفار جاءوا بقياس الشبه كثيراً باطلاً - ومِثْلُه باطل - كما قالوا في يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ﴿إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: آية ٧٧] فأثبتوا السرقة على أخي يوسف؛ لأن يوسف قد سرقَ قَبْلَهُ، قالوا: الأخ يشابه الأخ، فيلزم من مشابهتهما أن يكونا متشابهين في الأفعال، وأن هذا
_________
(١) انظر: كلام الشيخ (رحمه الله) على قياس الشبه في المذكرة في أصول الفقه ص٢٦٥، نثر الورود ص٥٠٩.
التفسير: إنها هي شهر ذي القعدة، أولها من ذي القعدة، وأن العشر الذي تمم بها أربعون: عشر ذي الحجة (١)، وأن إعطاء التوراة كان يوم النحر في اليوم العاشر، انتهاء العشر. يقولون: إن الله لما أراد الميعاد مع موسى واعده ثلاثين ليلة - ليصوم فيها وينقطع للعبادة لمناجاة الله، فلما صام الثلاثين يقول المفسرون (٢): إنه لما صام ثلاثين يومًا أحس بخلوف فمه -خلوف فم الصائم- فاستاك فَغَيَّرَ السواك ريح خلوف الفم، وأن الملائكة قالوا: كنا نشم من فِيك ريح المسك فأفسدته بالسواك، وأنه لما استاك بعد الثلاثين أمَرَهُ الله أن يصوم عشرة أيام أُخَر لأجل أن يرجع له خلوف الفم، ويكون وقت المناجاة عند انتهاء الميقات وفمه فيه خلوف الصائم، وخلوف فم الصائم معروف، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «لخلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ» (٣). وهذا معنى قوله: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً﴾ يصوم أيامها ويَتَعَبَّد هذه المدة قبل المناجاة، وذلك يدل أنه ينبغي العبادات والانقطاع إلى الله قبل مناجاته.
﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ ما ذكرنا.
﴿فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ [الأعراف: آية ١٤٢] بالعشر التي زِيدَتْ على الثلاثين، ومعلوم أن العشر إن زيدت على الثلاثين صارت أربعين كما قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٨٦)، ابن كثير (٢/ ٢٤٣)، القرطبي (٧/ ٢٧٤).
(٢) انظر: ابن كثير (٢/ ٢٤٣)، القرطبي (٧/ ٢٧٤).
(٣) أخرجه البخاري في الصوم، باب فضل الصوم، حديث رقم: (١٨٩٤)، (٤/ ١٠٣). وأطرافه في: (١٩٠٤، ٥٩٢٧، ٧٤٩٢، ٧٥٣٨). ومسلم في الصوم، باب: فضل الصيام حديث رقم: (١٦١ - ١٦٥)، (٢/ ٨٠٦).
وفاء ولا غدر، فلما جيء معاوية به وجده عَمْرَو بن عبْسة (رضي الله عنه) فقال: إني سَمِعْتُ رَسُول الله ﷺ يقول: «إِنْ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عُهُودٌ فَلاَ تَشدُّوا الْعُقْدَةَ وَلاَ تَحُلُّوهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ المُدَّةُ أَوْ تَنْبِذُوا إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ». قالوا: فرجع معاوية رضي الله عنه (١).
ومعنى الآية الكريمة: إن تخف الخيانة مِنْ قَوْم بينك وبينهم عهد -والخيانة هنا: الغدر ونقض العهد- ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ﴾ أي: فاطرح إليهم عَهْدَهُمْ ﴿عَلَى سَوَاء﴾ أَنْتَ وَهُمْ مستويان في العلم بنقض العهد، ولا تدلس لهم فيظنوا أنك على عهد حَتَّى تمكر بهم وهم في غفلة، بل أعلمهم بنقض العهد ليستعدوا للحَرْبِ ولا تحارِبْهم في غفلة. وهذا مِنْ كَمَالِ إنصاف دين الإسلام؛ لأن التعاليم السماوية والكتب الإلهية هي في غاية العدالة والإنصاف، حتى مع الكفار نهى نبيه أن يُحَارِبَهُمْ وهم في غفلة من ذلك، بل أمره أن يعلمهم وينبذ إليهم العهد علنًا حتى يستوي الجميع في العلم بالحال الواقعة ليستعدوا لِلْحَرب والقتال؛ ولئلا يُؤْخَذُوا على غِرَّة، فهذه مكارم الأخلاق والعدالة الكاملة. ولا شك أن هذا التشريع تشريع ممن هو عالم بأن أولياءه لهم النصر والظفر لا حاجة له في استعداد الكفار وعلمهم وقوتهم؛ لأنه يعلم أنهم مغلوبون مقهورون، وأن الدائرة عليهم، وهذا معنى قوله: ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٨].
_________
(١) أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر، حديث رقم: (١٥٨٠)، (٤/ ١٤٣). وأبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير نحوه، حديت رقم: (٢٧٤٢) (٧/ ٤٣٩). وانظر صحيح الترمذي حديث رقم: (١٢٨٥)، صحيح أبي داود، حديث رقم: (٢٣٩٧).


الصفحة التالية
Icon