وقوله: ﴿فِيهَا﴾ أَنَّثَ الضميرَ، يعني: رَاجِعًا إلى النفسِ. يعني: (فيها) أي: في النفسِ المقتولةِ، كُلُّكُمْ يدفعُ قتلَها عن نفسِه إلى صاحبِه.
﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ ﴿مُخْرِجٌ﴾ اسمُ فاعلِ (أَخْرَجَ) أي: مُظْهِرٌ ما كنتم تكتمون. و (ما) موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه منصوبٌ بفعلٍ، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (١):
........................ وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمُ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ اوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ
وتقريرُه: (واللَّهُ مخرجٌ الذي كنتم تكتمونَه من أمرِ القتيلِ) وكذلك أَسْنَدَ الكتمَ هنا للجميعِ، والكاتمُ هو القاتلُ.
وقال بعضُ العلماءِ: القَتَلَةُ جماعةٌ تَمَالَؤُوا على عَمِّهِمْ فَقَتَلُوهُ لِيَرِثُوهُ.
ومعنى قولِه: ﴿مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ أي: مُخْرِجٌ الذي كنتُم تكتمونَه. أَسْنَدَ الكتمَ إلى الكلِّ وأرادَ بعضَهم، سواءً قُلْنَا: إن القاتلَ واحدٌ أو جماعةٌ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عربيٌّ وهو: أن (ما) مفعولٌ به لاسمِ الفاعلِ الذي هو (مُخْرِجٌ)، والقصةُ - التي هي هذه - قصةٌ ماضيةٌ قبلَ نزولِ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنها واقعةٌ في زمنِ موسى، فهي في وقتِ نزولِ الآيةِ ماضيةٌ، مَضَتْ لها أزمانٌ كثيرةٌ، والمقررُ في علمِ العربيةِ: أن اسمَ الفاعلِ إذا لم يُحلَّ بالألفِ واللامِ لا يَعْمَلُ إلا إذا كانَ مقترنًا بالحالِ أو المستقبلِ، فلا يعملُ
_________
(١) الخلاصة ص١٦، وانظر: شرحه في الأشموني (١/ ١٢٨).
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ | وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ |
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا | أَبَانَ الْمُقرِفَات مِنَ الْعِرَابِ |
وقولُه: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ الشياطينُ: جمعُ الشيطانِ، والشيطانُ في لغةِ العربِ: هو كُلُّ عَاتٍ متمردٍ في الطغيانِ. فَكُلُّ مَا زَادَ وَبَرَزَ في جِنْسِهِ بِأَنْ زَادَ طغيانُه وعصيانُه وعُتُوُّه تُسَمِّيهِ العربُ: (شيطانًا)، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. فَكُلُّ عَاتٍ متمردٍ فهو شيطانٌ (٣)، سواء كان من الإنسِ كقولِه هنا: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ﴾ وقولِه: ﴿وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكْمْ﴾ [البقرة: آية ١٤] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ من الإنسِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ جريرٍ (٤):
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ | وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا |
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من هذه السورة.
(٢) في هذا الموضع وقع انقطاع في التسجيل، وما بين المعقوفين [ | ] زيادة ليتسنى ربط أطراف الكلام وأجزائه بعضها مع بعض. |
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
(رحمه الله) ما مضمونه ومعناه: أنه كان يقول: لولا آية من كتاب الله أشفقت على المجتهدين، وهي قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ... ﴾ الآية [الأنبياء: آية ٧٨] (١)؛ لأن الله (جل وعلا) صَرَّحَ بأنهما حَكَمَا حيث قال: ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ﴾ بألف الاثنين الواقعة على داود وسليمان ثم قال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ ولم يذكر شيئاً عن داود، فَعَلِمْنَا أن داود لم يفهمها؛ لأنها لو فهمها الأب لما اقتصر على الابن، ولَمَا كان للاقتصار على سليمان فائدة مع أنهما فهماها، ولو كان هذا وحياً من الله لما فهمه أحدهما دون الآخر؛ لأن الوحي أمر لازم للجميع، فدل على أنهما اجتهدا، وأن داود لم يُصِبْ في اجتهاده، وأن سليمان أصاب في اجتهاده، فالله أثنى على كل منهما، ولم يؤنب داود، بل قال بعدها: ﴿وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً﴾ (٢)
[الأنبياء: آية ٧٩] وقد ثبت في الصحيحين ما يُستأنس به لهذا؛ لأنه قد ثبت في الصحيحين أن داود (عليه السلام) في زمنه جاءته امرأتان نُفستا، وجاء الذئب فاختطف ابن واحدة منهما، وكانت التي اختطف ولدها هي الكبرى، وبقي ولد الصغرى فقالت الكبرى: هذا ولدي، وتنازعتا، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى اجتهاداً منه، لأمارات ظهرت له، أو لشيء في شرعه يقتضي ظاهره ذلك الاجتهاد. فرجعتا إلى سليمان، فلما رجعتا إلى سليمان قال: كل واحدة منكما تدعيه!! هاتوا بالسكين أشقه بينهما نصفين، فأُعطي نصفه لهذه ونصفه لهذه. وكان أبو هريرة يقول: ما سمعت بالسكين إلا ذلك اليوم، ما كنا نقول لها إلا المُدْيَة. فلما قال إنه
_________
(١) البخاري في الأحكام، باب: متى يستوجب القضاء (١٣/ ١٤٦).
(٢) انظر: جواب ابن حزم عن هذه الأدلة في الإحكام ص٦٩٩..
فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)} [الأعراف: الآيتان ١٤٣، ١٤٤].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)﴾ [الأعراف: آية ١٤٣].
(لما) هذه هي التي تربط شرطًا بجزاء، وقد قدمنا أن علماء العربية اختلفوا فيها: هل هي حرف أو اسم؟ (١).
﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى﴾ نبي الله موسى بن عمران ﴿لِمِيقَاتِنَا﴾ أي: جاء للوقت الذي حددناه له للميعاد للمناجاة وإعطاء التوراة بعد انتهاء الأربعين يومًا كما تقدم إيضاحه، كما تقول: جاءني فلان لستة خلون من شهر كذا، لما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه وسمع كلام الله (جل وعلا) اشتاق موسى إلى رؤية الله لما كلَّمه الله، قال موسى لربه: ﴿أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ (رب) أصله: يا ربي، حُذفت أداة النداء، وحُذفت ياء المتكلم اكتفاء عنها بالكسرة. وحَذْفُ ياء المتكلم إحدى اللغات الخمس المشهورة في المنادى إن كان صحيح الآخر، مضافًا إلى ياء المتكلم كما هو معروف في محله (٢).
وقوله: ﴿أَرِنِي﴾ قرأ هذا الحرف جماهير القراء منهم السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو ﴿أَرِنِي﴾ بكسر الراء كسرة تامة. وقرأ هذا
_________
(١) انظر: الحروف العاملة في القرآن الكريم ص٥٩٦.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
(صلوات الله وسلامه عليه) لم يعلموا به حتى قرُب من ديارهم، وكان ما وقع مما هو مشهور يوم الفتح. وهذا معنى قوله: ﴿فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ جل وعلا ﴿لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٨] وكل شيء لا [يحبه] (١) الله دل على أن صاحبه مرتكب جريمة وذنباً عظيماً. والخائنون: جمع خائن، وأصل الهمزة في ﴿الخَائِنِينَ﴾ مبدلة من واو؛ لأن (الفاعل) من الأجوف تبدل عينه همزة، سواء كانت واواً أو ياءً، والهمزة في محل الواو؛ لأن المادة واوية العين كما بينا (٢). فالله (جل وعلا) يبغض الخائنين، فلا ينبغي للإنسان أن يخون، وهذا مِنْ مَكَارِمِ الأخلاق، وغاية عدالة الكتب السماوية وإنصافها.
وقوله جل وعلا: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (٥٩)﴾ [الأنفال: الآية ٥٩] في هذا الحرف ثلاث قراءات سبعية (٣): قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي: ﴿وَلاَ تَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بالتاء الفوقية وكسر السين من (تَحسِبَن). وقرأه عاصم في رواية شعبة وحده أعني أبا بكر: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ﴾ بالتاء الفوقية للمخاطب وفتح سين (تَحسَبن) وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ﴾ بياء الغيبة التحتية وفتح سين (يحسَبن).
_________
(١) في الأصل: «يبغضه» وهو سبق لسان.
(٢) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص١٠٣.
(٣) انظر: السبعة ص٣٠٧.