مُقْتَرِنًا بالماضي (١)، وهنا أُعْمِلَ وهو واقعٌ في زمنِ الماضي؟ هذا وجهُ السؤالِ.
الجوابُ (٢): أنه إنما أُعْمِلَ اسمُ الفاعلِ في هذا المفعولِ؛ لأن هذه حكايةُ حالٍ ماضية في وقتِها، فإنما حُكِيَتِ الحالُ في وقتها؛ فكأنها في وقتِها؛ لأن الحكايةَ تُحْكَى فيها الأحوالُ في حالِ وقتِها. ونظيرُ هذا يُجَابُ به عن قولِه جل وعلا: ﴿وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ﴾؛ لأنها أيضا حكايةُ حالٍ ماضيةٍ، وهي في وقتِها مُطَابِقَةٌ للزمنِ الْحَالِي.
والآيةُ تدلُّ على أن مَنْ فَعَلَ سوءًا وكتمَه أن اللَّهَ يُظْهِرُهُ، غالبًا لا يُسِرُّ الإنسانُ سَريرةً إلا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا (٣). وكان بعضُ العلماءِ يقول: لو عَمِلَ الإنسانُ الشرَّ في غايةِ الخفاءِ لا بدَّ أن يُظْهِرَهُ اللَّهُ، كما يُفْهَمُ من قولِه: ﴿وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
وقولُه: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ [البقرة: الآية ٧٣] صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، و (الفاء) عاطفةٌ للجملةِ على ما قَبْلَهَا، يعني: تدارأتم في القتيلِ، فقلنا لكم: اضْرِبُوهُ ببعضِ البقرةِ؛ لِيُبَيَّنَ لكم الواقعَ، وتعرفون القاتلَ، وينتهي النزاعُ ﴿فَقُلْنَا﴾ صيغةُ الجمعِ للتعظيمِ، ﴿اضْرِبُوهُ﴾ أي: القتيلَ. فالضميرُ عائدٌ إلى القتيلِ. المفهوم من النفسِ في قولِه: ﴿نَفْسًا﴾، فَأَنَّثَ الضميرَ باعتبارِ لفظِ النفسِ، وذكَّرَهُ باعتبارِ معناها؛ لأن القتيلَ ذَكَرٌ، وقد يكونُ الذَّكرُ يُعَبَّرُ عنه بلفظٍ
_________
(١) انظر: التوضيح والتكميل (٢/ ٥٨، ٦١).
(٢) انظر: الدر المصون (١/ ٤٣٥).
(٣) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٢٢٩)، شرح الطحاوية ص١٤٤، تفسير ابن كثير (١/ ١١٢)، (٤/ ١٨٠).
إطلاقِ الشيطانِ على المتمردِ العاتِي من غيرِ الإنسِ والجنِّ: حديثُ النبيِّ - ﷺ -: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ» (١).
وقد قَدَّمْنَا في تفسيرِ الاستعاذةِ: أن علماءَ العربيةِ اختلفوا في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ (٢)، فَذَهَبَ جماعةٌ - وهو أظهرُ القولين اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا سيبويه، كُلٌّ منها في موضعٍ مِنْ كتابِه - أن أصلَ المادةِ التي منها الشيطانُ: هي (الشين والطاء والنون)، فَحُرُوفُهُ الأصليةُ (شطن) والياءُ والألفُ زَائِدَتَانِ، وعليه فَوَزْنُهُ بالميزانِ الصرفيِّ: (فَيْعَال) فاءُ مادتِه: شينٌ، وَعَيْنُهَا: طاءٌ، ولامُها: نونٌ، أصلُها من (شطن)، ومادةُ (شطن) تستعملُها العربُ في البُعدِ، فَكُلُّ شيءٍ بعيدٍ تُطْلِقُ عليه هذا الاسمَ، تقولُ العربُ: «نوًى شطون». أي: بعيدةٌ. و (بئر شطون). أي: بعيدةُ القعرِ، ومنه قولُ الشاعرِ (٣):
نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ | فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا حَزِينُ |
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَتَاهُ عَكَاهُ | ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ |
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
(٢) السابق.
(٣) البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (٤٣) من هذه السورة.
(٤) السابق.
يشقه جزعت أمه التي هي الصغرى، وأدركتها الرأفة على الولد فقالت له: لا، يرحمك الله، هو ابنها وأنا لا حق لي فيه. وكانت الكبرى راضية بأن يُشق لتساويها أختها في المصيبة، فعلم سليمان أن الولد للصغرى، فقضى به للصغرى (١). وذكر ابن عساكر في تاريخه ما يشبه هَذِهِ القِصَّةَ عَنْ دَاوُد وسليمان، إلا أَنَّهُ فِي تاريخ ابن عساكر -والله أعلم بصحة القصة وعدم صحتها- إلا أن هذا الذي ذكرنا الآن اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة. والقصة التي ذَكَرَها ابن عساكر في تاريخه: أنه كان أربعة من أشراف بني إسرائيل راودوا امرأة جميلة من بني إسرائيل عن نفسها، وكانت بارعة الجمال، [فمنعتهم وحاولوا أن يصلوا] (٢) إليها فامتنعت، فاتفقوا على أن يحتالوا عليها حيلة فيقتلونها، فجاءوا وشهدوا عند داود أن عندها كلباً علمته الزنا، وأنها تزني بكلبها، وكان مثل هذا عند داود يقتضي حكم الرجم، فدعا داود بالشهود فشهد الأربعة على أنها تزني بكلبها فرجمها داود.
قالوا: وكان سليمان إذ ذاك صغيراً، فجمع سليمان الصبيان وجعل منهم شُرَطاً، قال: فلان وفلان جعلهم كالشرطيين، وأخذ قوماً وجعلهم شهوداً، وجاءوا يشهدون، وجعل رجلاً كأنه المرأة، وقالوا: نشهد أن هذه زنت بكلبها، ثم قال سليمان للصبيان الذين جعلهم كالشُّرط: خذوا كل واحد منهم وفرقوهم وأتوني بهم واحداً واحداً. فجاءوه بالأول فقال: ما تقول في شهادتك؟ قال:
_________
(١) البخاري في أحاديث الأنبياء، باب: قوله تعال: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ... ﴾ حديث رقم (٣٤٢٧)، (٦/ ٤٥٨)، وطرفه في (٦٧٦٩)، ومسلم في الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين، حديث رقم (١٧٢٠)، (٣/ ١٣٤٤).
(٢) في الأصل: «فمنعتهما وحاولا أن يصلا».
الحرف ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو: ﴿أرْني أنظر إليك﴾ بسكون الراء. وقرأه الدوري عن أبي عمرو بكسرة مُختلسة. فتحصَّل أن جميع القراء غير ابن كثير، وأبي عمرو قرءوا: ﴿أَرِنِي﴾ بكسرة تامة، وأن ابن كثير قرأ بسكون الراء، وكذلك قرأه السوسي عن أبي عمرو، وقرأ الدوري عن أبي عمرو بكسرة مُختلسة (١) -وقد قدمنا- بأن هذه القراءات في: ﴿أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ هي بعينها في قوله: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ [البقرة: آية ١٢٨].
وفي إسكان الراء في القراءة السبعية إشكال، فلطالب العلم أن يقول: ما وجه إسكان الراء ﴿أرْني أنظر إليك﴾ في قراءة ابن كثير والسوسي عن أبي عمرو؟
والجواب عن هذا السؤال: أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أنها ربما اعتبرت العين كأنها لام، وكانت العين وراءها حرف لين محذوف لأمر أو لجزم - مثلاً - فتتخيل العرب العين كأنها اللام وتُنزّلها منزلة الحرف الأخير فتسكنها، ونظير هذا في القراءات: قراءة حفص في سورة النور (٢): قوله تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ﴾ [النور: آية ٥٢] بسكون القاف، قوله: ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ كقوله هنا: ﴿أرْني﴾ في قراءة ابن كثير والسوسي، وهذا معروف في كلام العرب، ومن أساليب اللغة أن العين المتحركة إذا كانت بعدها لام محذوفةٌ حرف علّة أنهم ربما اعتدوا بالعين فتخيلوا أنها اللام فسكنوها للأمر، وعليه قراءة: ﴿ويخش الله ويتقْه﴾ وقوله:
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٣٦.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة.
أما على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي: ﴿وَلاَ تَحْسِبَنَّ﴾ وقراءة شعبة: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾ فالآية الكريمة لا إشكال فيها، وكلا القراءتين واضح لا إشكال فيه ولا كلام.
أما قراءة ابن كثير (١) وحمزة وحفص عن عاصم: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء، فهذه القراءة أصلها مشكلة، ومعناها مشكل (٢). وتجرأ أقوام جراءة لا تليق -وإن كان فيهم معرفة وعلم وجلالة كأبي حاتم وأبي عبيد، حتى ابن جرير رحمه الله- وأنكروا هذه القراءة، وقالوا: إنها بعيدة من كلام العرب، وأنها لا وجه لها من الفصاحة، كما أنكر ابن جرير وغيره قراءة ابن عامر: ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٩] بفتح همزة (أن).
والتحقيق أن قراءة ابن عامر: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ بالياء، و ﴿أنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ بفتح الهمزة، وقراءة حمزة وحفص عن عاصم: ﴿يَحْسَبَنَّ﴾ وقراءة: ﴿إِنَّهُمْ﴾ كلها قراءات سبعيات فصيحة متواترة عن النبي ﷺ لا وَجْهَ لِلطَّعْنِ فيها.
أما على قراءة من قرأ: ﴿ولا تحسِبن الذين كفروا﴾ فاعلموا أولاً أن (حَسِب) بكسر السين في مضارعها لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن: (حَسِب يَحْسَب، وحَسِبتَ تَحْسَبُ). بفتح السين على القياس، و (حَسِبَ يَحسِبُ) بكسر السين على السماع لا على القياس، وهما لغتان فصيحتان مستفيضتان وقراءتان سبعيتان.
_________
(١) سبق لسان، والصواب: ابن عامر.
(٢) انظر: حجة القراءات ص٣١٢، ابن جرير (١٤/ ٢٨)، القرطبي (٨/ ٣٣) الدر المصون (٥/ ٦٢٣).