مُؤَنَّثٍ، فيجوزُ التأنيثُ مراعاةً للفظِ، والتذكيرُ مراعاةً لِلْمَعْنَى (١). ومنه في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ (٢):
أَبُوكَ خَلِيْفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
فَأَنَّثَ (الخليفةَ) وأطلقَ عليه لفظُ (الأُخْرَى) نظرًا إلى تأنيثِ لفظِه، مع أنه يجوزُ تذكيرُه؛ لأنه رجلٌ. فقلنا لهم: اضْرِبُوا القتيلَ ببعضِ هذه البقرةِ، فضربوه ببعضِها فَحَيِيَ.
وهذا البعضُ الذي ضربوه به منها اختلفَ فيه المفسرون (٣)، فمنهم مَنْ يَقُولُ: هو لسانُها. ومنهم من يقول: فَخِذُهَا. ومنهم من يقولُ: عَجْبُ ذَنَبِهَا. ومنهم مَنْ يقولُ: الغضروفُ، غضروفُ الأُذُنِ.
والحقُّ أن هذا البعضَ الذي ضَرَبُوهُ به منها لا دليلَ عليه، ولا جَدْوَى في تَعْيِينِهِ. وَكَثِيرًا ما يُولَعُ المفسرون بالتعيينِ في أشياءَ لم يَرِدْ فيها دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ، ولا جَدْوَى تحتَ تَعْيِينِهَا، فَيَتْعَبُونَ بما لا طائلَ تَحْتَهُ، كاختلافِهم في خشبِ سفينةِ نوحٍ من أَيِّ شجرٍ هو؟ وكم كان عرضُ السفينةِ؟ وطولُها؟ وكم فيها من الطبقاتِ؟ وكاختلافِهم في الشجرةِ التي نُهِيَ عنها آدمُ وحواءُ، أَيُّ شجرةٍ هي؟ وكاختلافهم في كلبِ أصحابِ الكهفِ ما لَوْنُهُ، هل هو أسودُ أو أصفرُ؟ وكثير من هذه الأمورِ التي يُولَعُونَ بها ولا طائلَ تَحْتَهَا، ولا دليلَ عليها من كتابٍ وسنةٍ (٤). غايةُ ما دَلَّ عليه القرآنُ: أنهم
_________
(١) انظر: البحر المحيط (١/ ٤٣٥).
(٢) البيت لنُصيب بن رباح الأموي، انظر: اللسان (مادة: خلف) (١/ ٨٨٣)، (مادة: فلح) (٢/ ١١٢٦).
(٣) انظر: ابن جرير (٢/ ٢٢٩ - ٢٣١).
(٤) انظر: مقدمة في أصول التفسير ص١٩.
فَأَطْلَقَ على الشيطانِ: شاطن. والشاطنُ: اسمُ فاعلِ (شطن) بلاَ خِلاَفٍ.
الوجهُ الثاني في وزنِ الشيطانِ بالميزانِ الصرفيِّ - وقد أشارَ له أيضًا سيبويه في كتابِه -: أن أصلَه من (شاط، يشيط). وعلى هذا: فأصلُ مادتِه (شَيَط) فاءُ المادةِ: شينٌ، وَعَيْنُهَا: ياءٌ، ولامُها: طاءٌ. وعلى هذا فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلان) لا (فَيْعَال)، والعربُ تقولُ: «شاطَ يَشِيطُ» إذا هَلَكَ. ومنه قولُ الأَعْشَى - ميمونِ بنِ قَيْسٍ (١):
قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ | وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ |
وقولُه: ﴿شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ (٢):
أحدُهما: وهو الأظهرُ الصحيحُ، وقد جاءَ في حديثٍ مرفوعٍ عن أَبِي ذَرٍّ (رضي الله عنه) أن النبيَّ - ﷺ - قال له: «يَا أَبَا ذَرٍّ: تَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ» فقال أبو ذر: أَوَللإِنْسِ شياطينُ؟ فقال - ﷺ -: «نَعَمْ». وفي بعضِ رواياتِه: «أَنَّ شَيَاطِينَ الإِنْسِ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ» (٣).
_________
(١) البيت للنابغة، وقد مضى عند تفسير الآية (٤٣) من هذه السورة.
(٢) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٤/ ١٣٧١ - ١٣٧٢) ابن جرير (١٢/ ٥١).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٤٣) من سورة الأنعام.
أقول إنها زنت بكلبها. قال له: وما لون الكلب؟! قال: كان كلبها أحمر، ثم دعا بالثاني فقال: وما لون الكلب؟ قال: كان كلبها أسود، ثم دعا الآخر فقال: أغبر، فاختلفت أقوالهم في لون الكلب، فعلم أنهم كَذَبَة، فقال: اقتلوهم؛ لأنهم قتلوها. فسمع داود الخبر، فأرسل بالشهود حالاً وفرقهم، وجاءوه واحداً واحداً فسألهم فاختلفوا في لون الكلب، فعلم أنهم شهدوا عليها شهادة زور ليقتلوها حيلة، فقتلهم قصاصاً، هكذا قال، والله أعلم (١).
وعلى كل حال فالقياس هو قسمان: قياس صحيح، وقياس فاسد. فما جاء به الظاهرية -من ذم القياس- والسلف هو ينطبق على القياس الفاسد، والصحابة كانوا مجمعين على القياس الصحيح (٢). وقد جاء عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أن النبي ﷺ لما أرسله إلى اليمن جاءه ثلاثة نفر يختصمون في غلام، كلهم يقول: هو ابني. فقال: اقترعوا على الغلام، فوقعت القرعة لواحد [منهم] (٣) فقال للذي جاء الغلام في نصيبه: خذ الغلام وادفع لكل واحد منهما ثلث الدية -ثلث دية الغلام- قالوا: فلما بلغ قضاؤه النبي ﷺ ضحك من قَضَاءِ عَلِيٍّ هذا حتى بدت نواجذه (٤).
_________
(١) تاريخ دمشق (٢٢/ ٢٣٢)، وهي في مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (١٠/ ١٢٠ - ١٢١).
(٢) انظر: مناقشة ابن حزم لذلك في الإحكام ص٩٧٩.
(٣) في الأصل: (منهما).
(٤) عبد الرزاق (١٣٤٧٢، ١٣٤٧٣)، وأحمد (٤/ ٣٧٣، ٣٧٤)، وأبو داود في الطلاق، باب: من قال بالقرعة إذا تنازعوا في الولد، حديث رقم (٢٢٥٢ - ٢٢٥٤)، (٦/ ٣٥٩ - ٣٦٢)، والنسائي في الصغرى، كتاب الطلاق، باب: القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه.
حديث رقم (٣٤٨٨ - ٣٤٩٢)، (٦/ ١٨٢ - ١٨٤)، وفي الكبرى رقم (٥٩٨٨)، وابن ماجه في الأحكام، باب: القضاء بالقرعة. حديث رقم (٢٣٤٨)، (٢/ ٧٨٦)، والبيهقي (١٠/ ٢٦٧).
وهو في صحيح أبي داود (١٩٨٦ - ١٩٨٧)، وصحيح ابن ماجه (١٩٠١)، وصحيح النسائي (٣٢٦٤ - ٣٢٦٧).
﴿أرْنا مناسكنا﴾ [البقرة: آية ١٢٨] ﴿أرْني أنظر إليك﴾ ونظيره من كلام العرب قول الشاعر (١):
أَرْنَا إِداوَةَ عبد الله نَمْلَؤُهَا | من ماءِ زَمْزَمَ إن القومَ قد ظَمِئُوا |
وَمَنْ يَتَّقْ فَإِنَّ اللهَ مَعْهُ | فَرِزْقُ اللهِ مُؤْتَابٌ وغَادِ |
قَالتْ سُلَيْمى اشْتَرْ لَنا سَوِيقا... وهَاتِ خُبزَ البُّرِّ أَوْ دَقِيقَا...
لَوْ كُنْتُ يَا سَلْمَى لِذَا مُطِيقا | مَا كَانَ عَيْشِي عِنْدَكُمْ طَمِيقَا |
قال بعض العلماء: مفعول (أرني) الثاني محذوف (٤). أي: أرني نفسك أنظر إليك، والفعل المضارع مجزوم بجواب الطلب، فقد قدمنا أن علماء العربية (٥) يقول جماعة منهم: إن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط محذوف؛ أي: إن تُرني أنظر إليك.
ولما قال موسى هذا وسأل ربه أن يُريه ينظر إليه، طلب الله النظرَ إليه (جل وعلا)، قال الله مجيبًا لموسى: {لَن
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) السابق.
(٤) انظر: الدر المصون (٥/ ٤٤٩).
(٥) مضى عند تفسير الآية (٦٩) من سورة البقرة.
فقراءة شعبة عن عاصم لا فرق بينها وبين قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي، وإنما الفرق بين قراءة التاء وقراءة الياء. أما على القراءة بتاء الخطاب فمعنى الآية واضح لا إشكال فيه، والحُسبان في لغة العرب: الظن. والمعنى: لا تظن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا. فـ (الذين) في محل المفعول الأول، وجملة (سبقوا) في محل المفعول الثاني، و (سبقوا) معناه: غلبوا وفاتوا، فكل شيء فاتك ولم تدركه وعَجزتَ عنه تقول العرب: سبقك. ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ﴾ [الواقعة: الآيتان ٦٠، ٦١] لسنا بمغلوبين ولا معجَّزين عن أن نبدل أمثالكم. أي: لا تظنن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا، لا تظنن الكفار فائتين سابقين يعجز عنهم ربهم (جل وعلا)، لا وكلا ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ ولا يسبقون، فهم تحت قهره وقدرته وسلطنته يفعل فيهم كيف يشاء، ولا يسبقونه ولا يفوتونه، كما قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا﴾ [العنكبوت: الآية ٤] أي: يفوتوننا ويعجزوننا، لا ﴿سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ [العنكبوت: الآية ٤]، وكذلك قراءة شعبة عن عاصم: ﴿ولا تَحْسَبن الذين كفروا﴾ هي معناها وهذه القراءة واحد.
[٧/ب] / أما على القراءة الأخرى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا﴾ فتفسير الآية مشكل؛ لأنه لا يُدرى أين مفعولا (حَسِب)، ولا يُدرى الفاعل أين هو؟!
وللعلماء فيها أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً:
قال بعض العلماء: هذه الآية الكريمة حُذفت منها (أن) المصدرية، وحذف (أن) المصدرية إذا دل المقام عليها أسلوب