ضربوه ببعضٍ مِنْ تلكَ البقرةِ غيرَ مُعَيَّنٍ ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا﴾ أي: فَضَرَبُوهُ ببعضٍ منها فَحَيِيَ بإذنِ اللَّهِ، فأخبرهم بقاتلِه، ثم عادَ مَيِّتًا، ولم يَرثِه قاتلُه الذي قَتَلَهُ. قال بعضُ العلماءِ: ومن ذلك اليومِ لم يَرِثْ قاتلٌ عَمْدًا (١).
وعامةُ العلماءِ على أن القاتلَ لا يرثُ، سواء كان القتلُ عمدًا أو خطأً، لا من المالِ ولا من الديةِ. وعن مالكِ بنِ أنسٍ (رحمه الله) التفصيل بين الديةِ والمالِ في خصوصِ القتلِ خطأً، قال: إن القاتلَ خطأً يرثُ من المالِ، ولا يرثُ من الديةِ. والجمهورُ على خلافِه، وشذَّ قومٌ فَوَرَّثُوهُ من المالِ والديةِ في القتلِ خطأً (٢).
وقولُه: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ يعني: كما أَحْيَا اللَّهُ هذا القتيلَ وهذا الجمُّ الغفيرُ من الناسِ ينظرون، كذلك الإحياءُ الْمُشَاهَدُ يُحْيِي اللَّهُ الموتى يومَ القيامةِ، فهو دليلٌ قُرْآنِيٌّ على البعثِ؛ لأن مَنْ أَحْيَا نفسًا واحدةً فهو قادرٌ على إحياءِ جميعِ النفوسِ، لأن ما جَازَ على المِثل يجوزُ على مُمَاثِلِهِ، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان: آية ٢٨].
وهذه الآيةُ الكريمةُ تُؤْخَذُ منها فوائدُ، من الفوائدِ التي تُؤْخَذُ منها: أن الخالقَ الفاعلَ كيفَ يشاءُ هو رَبُّ السماواتِ والأرضِ. وأن الأسبابَ لا تأثيرَ لها إلا بمشيئةِ اللَّهِ. وأن اللَّهَ يُسبِّبُ ما شاءَ على ما شاءَ من الأسبابِ، ولو لم تكن بين السببِ والمُسَبَّبِ مناسبةٌ، فهذا القتيلُ لو ضُرِبَ بالبقرةِ وهي حَيَّةٌ لقالَ قائلٌ جاهلٌ: اكتسبَ الحياةَ من
_________
(١) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (١/ ٢١٥)، تفسير ابن كثير (١/ ١٠٨).
(٢) انظر: العذب الفائض (١/ ٢٨ - ٢٩).
وحديثُ أبي ذَرٍّ هذا جاءَ من طُرُقٍ متعددةٍ، لا يَخْلُو بعضُها من مقالٍ، إلا أن مجموعَها يُقَوِّي بعضُها بعضًا، ويدلُّ على أن الحديثَ له قوةٌ وأصلٌ. وعلى هذا القولِ فأعداءُ الرسلِ شياطينُ على نَوْعَيْنِ: شياطينُ من العتاةِ الكفرةِ من الإنسِ، وشياطينُ عتاةٌ كفرةٌ من الجنِّ، كلهم أعداءُ الرسلِ. وهذا القولُ الصحيحُ.
وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ به أن أعداءَ الرسلِ شياطينُ، إلا أن هؤلاء الشياطينَ منهم شياطينُ يضللونَ الإنسَ، ومنهم شياطينُ يُضَلِّلُونَ الجنَّ. وَرُوِيَ هذا عن جماعةٍ من العلماءِ، وجاء فيه حديثٌ ضعيفٌ.
قال بعضُ العلماءِ: إن إبليسَ يُفَرِّقُ الشياطينَ يُضَلِّلُونَ الجنَّ، ويضللونَ الإنسَ، فللإنسِ شياطينُ يضللونهم، وللجنِّ شياطينُ يضللونهم. قالوا: فيجتمعونَ، فيقولُ بعضٌ لبعضٍ: أنا أَضْلَلْتُ صَاحِبي بكذا وكذا فَضَلَّ، فاسْتَعْمِلْ هذا الذي أضللتُ به صاحبي لِتُضِلَّ به صاحبَك.
هذا وجهٌ في الآيةِ. والقولُ الأولُ أظهرُ للحديثِ المذكورِ.
وقولُه: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ ﴿يُوحِي﴾ مضارعُ (أَوْحَى، يُوحي، إيحاءً)، والوحيُ في لغةِ العربِ: يُطْلَقُ على كل شيء يُلْقَى في سرعةٍ وخفاءٍ (١). فَكُلُّ ما ألقيتَه في سرعةٍ وخفاءٍ فقد أوحيتَ به. ومن هنا كان الوحيُ يُطْلَقُ على الإشارةِ، وَيُطْلَقُ على الكتابةِ، وُيطلق على الإلهامِ، ويطلقُ على ما يُلْقِيهِ الإنسانُ لصاحبِه
_________
(١) انظر: المفردات (مادة: وحى) ص ٨٥٨، المصباح المنير (مادة: الوحي) ص ٢٤٩.
ومن ذلك حديث معاذ الذي قال له: «بِمَ تَقْضِي؟» قال: بكتاب الله. قال: «فإنْ لَمْ تَجِدْ؟» فبسنة رسول الله. قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟» قال: أجْتَهِدُ رَأْيِي. فقال: «الحَمْدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (١). وهذا الحديث يقول ابن حزم: إنه باطل (٢) لا أصل له؛ لأنه رواه الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة، عن ناس من حمص مجهولين، هو رواية مجهول عن مجاهيل، وأن الاستدلال به ضلال. وقد قال ابن كثير في مقدمة تفسيره: إنه رواه أصحاب السنن بإسناد جيد (٣) وذكر بعض العلماء أنه جاء من طريق عبادة بن نُسي، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل. وهذا الإسناد من هنا صحيح لا شك في صحته؛ لأن رجاله معروفون، إلا أن البلية مما قبل عبادة بن نُسي، والظاهر أن الذي رواه عن عبادة بن نسي هو محمد بن حسان (٤) المصلوب، الذي صلبه أبو جعفر المنصور في
_________
(١) أحمد (٥/ ٢٣٦)، (٢٤٢)، والدارمي (١/ ٥٥)، وأبو داود في القضاء، باب: اجتهاد الرأي في القضاء، حديث رقم (٣٥٧٥، ٣٥٧٦)، (٩/ ٥٠٩)، والترمذي في الأحكام، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي. حديث رقم (١٣٢٧، ١٣٢٨)، (٣/ ٦٠٧)، وانظر: ضعيف أبي داود (٧٧٠، ٧٧١)، والمشكاة (٣٧٣٧)، وضعيف الترمذي (٢٢٤)، والسلسلة الضعيفة (٨٨١).
(٢) انظر الإحكام ص٦٩٨، ٧٧٣.
(٣) تفسير ابن كثير (١/ ٣).
(٤) هو محمد بن سعيد بن حسان، ويقال له: ابن أبي حسان. قيل: «قلبوا اسمه على مائة وجه ليخفى» اهـ (التقريب ص٨٤٧) وانظر: ص٨٣٦.
تَرَانِي} [الأعراف: آية ١٤٣] (لن) هنا حرف نفي ﴿لَن تَرَانِي﴾ يعني: لن تراني في هذه الدار الدنيا كما سنوضحه قريبًا إن شاء الله، والمعنى: أنت أضعف يا موسى من أن تقدر على رؤية خالق السماوات والأرض؛ لأن شأنه أعظم وأمره أكبر وأجلّ من أن يقدر على رؤيته أحد في الدنيا؛ لأن الناس في الدنيا مركّبون تركيبًا لا يبلغ غاية القوة، معرضون للموت والهلاك، فأنت بهذه الدار لا تقدر أن ترى رب السماوات والأرض، وهذا هو التحقيق في الآية كما سنوضحه إن شاء الله. ثم إن الله كأنه يقول له: هذا الجبل لا شك أنه أقوى منك وأصلب، فهو إذن سأتجلى له، فإنْ تحمّل الجبل رؤيتي وتجلِّيّ له فأنت يمكن أن تقدر وَسَتَرانِي، وإن عجز الجبل عن ذلك -صار دكًّا وصار فتاتًا ترابًا- علمتَ أن الشيء الذي يدك الجبال لا يقدر عليه الدم واللحم منك يا موسى، وهذا معنى قوله: ﴿لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ مع قوته وصلابته ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ﴾ وتحمّل تجلّيّ له فيمكن أن تراني، وإن صار الجبل فتاتًا فالذي يدك الجبال لا تقدر عليه أنت يا موسى، فأنت أضعف من أن تتحمل ذلك، وهذا معنى قوله: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ جاء في حديث عند الحاكم (١)
أن الله كشف من نوره شيئًا قليلاً بقدر بعض
_________
(١) أخرجه أحمد (٣/ ١٢٥، ٢٠٩)، والترمذي في التفسير، (ومن سورة الأعراف) حديث رقم (٣٠٧٤)، (٥/ ٢٦٥)، وقال: «حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة» اهـ. والحاكم (٢/ ٣٢٠)، وقال: «صحيح على شرط مسلم» اهـ ووافقه الذهبي. وابن جرير (١٣/ ٩٨)، والطبراني في الأوسط (٢/ ٢٣٢)، وابن أبي حاتم في التفسير (٥/ ١٥٥٩)، (١٥٦٠)، وابن أبي عدي في الكامل (٢/ ٦٧٧)، وأورده البغوي في التفسير (٢/ ١٩٧)، وابن كثير (٢/ ٢٤٤)، والسيوطي في الدر (٣/ ١١٩)، وعزاه لأحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الرؤية.. وقد صحح سند الحديث ابن كثير في التفسير (٢/ ٢٤٤)، ومحمود شاكر في التعليق على ابن جرير (١٣/ ٩٨). وقد أخرج ابن جرير (رحمه الله) نحوه موقوفًا على ابن عباس (رضي الله عنهما) (١٣/ ٩٧).
عربي معروف موجود في القرآن وفي كلام العرب. قالوا: من أمثلته في القرآن قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ [الروم: الآية ٢٤] الأصل: ومن آياته أن يريكم البرق. ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد في معلقته (١):
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى..................................
ويُروى:
ألا أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى | وأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي |
وقال بعض العلماء: ضمير الفاعل يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بدلالة أن ضمير الفاعل في الخطاب واقع عليه، أي: لا تحسبن أنْتَ يَا نَبِيَّ الله، ولا يحسبن هو، أي: نبي الله، لا يحسبن الذين كفروا سبقوا. ومعلوم أنّه لا يحسب ذلك ولكنه يُنهى ليشرّع على لسانه لغيره كما قيل له: ﴿لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ﴾ [الإسراء: الآية ٢٢] ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً﴾ [الإسراء: الآية ٢٩] ونحو ذلك من الأشياء التي هو لا يفعلها، ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ [الإنسان: الآية ٢٤] وعلى هذا القول فتكون قراءة التاء قرينة دالة على الفاعل؛ لأن الفاعل في قراءة التاء ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾ أنت يا نبي الله. فيكون المعنى في قراءة الياء: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ﴾ هو أي: نبي الله، لا يظنن
_________
(١) شرح القصائد المشهورات (١/ ٨٠).