حياتِها فَاللَّهُ (جل وعلا) أَمَرَهُمْ أن يذبحوها حتى تكونَ مَيِّتَةً، وأن يأخذُوا قطعةً ميتةً منها لا حياةَ فيها فيضربوا بها هذا القتيلَ فَيَحْيَا. فَضَرْبُهُ بهذه القطعةِ الميتةِ من هذه البقرةِ المذبوحةِ كان سببًا لوجودِ الحياةِ فيه. وهذا السببُ لا مناسبةَ ببنَه وبينَ المُسَبَّبِ (١)، فدلَّ على أن خالقَ السماواتِ والأرضِ يفعلُ ما يشاءُ كيف يشاءُ، وَيُرَتِّبُ ما شاءَ من المُسَبَّباتِ على ما شاءَ من الأسبابِ باختيارِه وقدرتِه ومشيئتِه، ولو لم تكن هناك مناسبةٌ بين السببِ ومُسَبَّبِهِ.
أَخَذَ مَالِكٌ (رحمه الله) دونَ عامةِ العلماءِ من هذه الآيةِ حُكْمًا، وهو أنه يُثْبِتُ القَسَامةَ (٢). بقولِ المقتولِ: «دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ» (٣)؛ لأن هذا القتيلَ لَمَّا حَيِيَ أخبرهم أن قاتلَه فلانٌ، وَعَمِلُوا بقولِه، قال مَالِكٌ: فَعَمَلُهُمْ بقولِه الذي دَلَّ عليه القرآنُ دليلٌ على أن مَنْ قَالَ:
_________
(١) سئل الشيخ (رحمه الله) عن مدى تعلق قوله تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ [البقرة: آية ٦٠] بما ذُكر من أن الله (تعالى) يسبب ما شاء على ما شاء من الأسباب، ولو لم تكن بين السبب والمُسَبَّب مناسبة.
فأجاب الشيخ (رحمه الله) بقوله: ضَرْب الحجر بالعصا في هذا المقام شبيه بضرب القتيل بالجزء من هذه البقرة؛ لأن ضرب الحجر بالعصا لا يجعل الماء في الحَجَر، بل الماء إنما يخلقه الله بقدرته، كما أن ضَرب القتيل بالجزء من البقرة لا يجعله يحيا، ولكن الله أحياه، ورتب ما شاء من الأسباب على ما شاء، وقد أجاد من قال:

ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يسَّاقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزِّه جنته ولكن كل شيء له سبب
(٢) هي حلف مُعَيَّن عند التهمة بالقتل على الإثبات أو النفي. انظر: القاموس الفقهي ص٣٠٣.
(٣) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٧)، أضواء البيان (٣/ ٥٦٣).
سِرًّا في خفية. كل هذا يُسَمَّى وحيًا. ومن إطلاقِ الوحيِ على الإشارةِ قولُه في قصةِ زكريا: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)﴾ [مريم: آية ١١] أي: أشارَ إليهم على أظهرِ التَّفْسِيرَيْنِ. ويؤيدُه قولُه: ﴿أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا﴾ [آل عمران: آية ٤١] لأَنَّ الرمز: الإشارةُ. فدلَّ على أن الوحيَ في حَقِّهِ: الإشارةُ. وَيُطْلَقُ الوحيُ على الكتابةِ، وإطلاقُ الوحيِ على الكتابةِ كثيرٌ في كلامِ العربِ جِدًّا، ومنه قولُ لبيدٍ في معلقتِه (١):
فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا... خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
فـ (الوُحِيَّ): جَمْعُ (وَحْي)، وهو الكتابةُ في الحجارةِ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ بكثرةٍ، ومنه قولُ عنترةَ (٢):
كَوَحْي الصَّحَائفِ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى... فَأَهْدَاهَا لأَعْجَمَ طِمْطِمِي
ومنه قولُ غيلانَ ذي الرمةِ (٣):
سِوَى الأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا... بَقِيَّةُ وَحْيٍ فِي بُطُونِ الصَّحَائِفِ
أي: كتابة. وكذلك منه قولُ جريرٍ (٤):
كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحْيًا... بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلاَمِ
أي: خَطًّا.
_________
(١) البيت في شرح القصائد المشهورات (١/ ١٣٠)، اللسان (مادة: وحى) (٣/ ٨٩٢).
(٢) البيت في فتح القدير (٣/ ٣٢٤).
(٣) السابق.
(٤) البيت في ديوانه ص ٣٧٥، وشطره الأول: (كأن أخا اليهود... ).
الزندقة، وهو كذاب لا يُحتج به. فالحاصل أن حديث معاذ لا طريق له إلا طريق السنن التي فيها الحارث بن عمرو، عن قوم من أصحاب معاذ من أهل حمص.
والذين قالوا: إن الحديث صحيح، وإنه يجوز العمل به، استدلوا بأمرين:
أحدهما: أن الحارث بن عمرو المذكور وَثّقَهُ ابْنُ حبان، وإن كان ابن حبان له تساهل في التوثيق فالحديث له شواهد قَوِيَّة يَعْتَضِدُ بِهَا، كحديث الصحيحين: «إِذَا اجْتَهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» (١). قالوا: أصحاب معاذ بن جبل ليس فيهم مجروح، بل كلهم عدول. وإذا كان الحارث موثقاً، وأصحاب معاذ كلهم عدول فالحديث مقبول. وكذلك قالوا: إن علماء المسلمين تَلَقَّوْا هَذَا الحديث خلفاً عن سَلف، وتَلَقِّي العُلَمَاءِ للحديث بالْقَبُولِ يَكْفِيهِ عَنِ الإِسْنَادِ، وَكَمْ من حديث اكتُفي بصحته عن الإسناد، واكتُفي بعمل العلماء به في أقطار الدنيا؛ لأن هذه الأمة إذا عمل علماؤها في أقطار الدنيا بحديث دل على أن له أصلاً، واكتفي بذلك عن الإسناد.
وعلى كل حال فالقياس الباطل هو المذموم، والقياس الصحيح -وهو إلحاق النظير بالنظير على الوجه الصحيح- لا شك في
_________
(١) البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، حديث رقم (٧٣٥٢)، (١٣/ ٣١٨)، ومسلم في الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، رقم الحديث (١٧١٦)، (٣/ ١٣٤٢).
الخنصر، فلما كَشَفَهُ وظهر للجبل صار الجبل دكًّا، اندك الجبل حَتَّى استوى بالتراب، وصار ترابًا.
﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ الصحيح أن معنى قوله: ﴿صَعِقًا﴾: مغشيًّا عليه، خلافًا لقتادة القائل: (خَرَّ صعقًا) أي: ميتًا (١). وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن معنى (صعقًا): مغشيًا عليه، وهي قوله: ﴿فَلَمَّا أَفَاقَ﴾ لأن الإفاقة من الغشية والموت يقال: بعثه بعد الموت. لا أفاق بعد غشيته منها. وهذا معنى قوله: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾.
قرأ هذا الحرف عامّة القراء غير حمزة والكسائي ﴿جَعَلَهُ دَكًّا﴾ مصدر بمعنى اسم المفعول، وقرأه حمزة والكسائي: ﴿فلما تجلى ربه للجبل جعله دكَّاءَ وخر موسى صعقًا﴾ (٢).
أما على قراءة الجمهور: صار الجبل دكًّا، أي: مدكوكًا (٣)، والدكّ: أصله طحن الجبال، فطحنه الله. قال بعضهم: حتى استوى
_________
(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٥/ ١٥٦١)، وأورده ابن كثير (٢/ ٢٤٤)، والسيوطي في الدر (٣/ ١٢٠)، وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٤.
(٣) انظر: حجة القراءات ص٢٩٥.
الذين كفروا سبقوا. أي: فاتوا وعَجَزَ عنهم ربهم سبحانه عن ذلك. وعلى هذا القول فـ (الذين) في محل المفعول الأول، و (سبقوا) في محل المفعول الثاني.
وقال بعض العلماء: (الذين) في محل رفع على الفاعل، وأحد المفعولين محذوف. قالوا: المعنى: لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. أي: لا يظنّون أنفسهم سابقين، قالوا: وربما حُذف المفعول كما حُذف في قوله: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ﴾ [آل عمران: الآية ١٧٥] أصله: يخوفكم أولياءه لكن (حَسِب) و (خَوَّف) ليسا من باب واحد؛ لأن (حَسِبَ) تنصب المبتدأ والخبر، و (خَوَّفَ) لا تنصب المبتدأ والخبر بل مفعولاها أصلهما ليسا بمبتدأ وخبر.
وقال بعض العلماء: لا يحسبن الكفار الذين كفروا سبقوا.
هذه الأقوال في هذه الآية الكريمة وفي نظيرتها في سورة النور (١) على قراءة الياء. وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ﴾.
﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر: ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ وقرأه ابن عامر ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ بفتح الهمزة (٢).
وكان كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري (رحمه الله) يقول: إن قِرَاءَةَ ابْنِ عامر هذه لا وجه لها (٣). والكمال لله؛ لأن قراءة ابن عامر - رحمه الله - وجهها ظاهر جداً؛ لأنها تطابق قراءة الجمهور في المعنى، إلا أن قراءة ابن عامر أظهر في المعنى وإن
_________
(١) وهي قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ﴾ [النور: الآية ٥٧].
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢٢٢.
(٣) تفسير ابن جرير (١٤/ ٢٨).


الصفحة التالية
Icon