«قَتَلَنِي فُلاَنٌ». أنه يُعْمَلُ بقولِه، ومن هنا جَعِلَ قولُ المقتولِ إذا أُدْرِكَ وبه رمقٌ وقيل له: مَنْ ضَرَبَكَ؟ فقال لهم: «قَتَلَنِي فُلاَنٌ، أو دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ». فهذا لَوْثٌ (١) عند مَالِكٍ (٢) تُحلف معه أيمانُ الْقَسَامَةِ، وَيُسْتَحَقُّ به الدمُ أو الديةُ، على التفصيلِ المعروفِ فيما تُسْتَحَقُّ به القَسَامَةُ من عَمْدٍ أو خَطَأٍ.
وخالفَ مَالِكًا في هذا الفرعِ عامَّةُ العلماءِ، وقالوا: قولُ القتيلِ: «دَمِي عِنْدَ فُلاَنٍ» هذا لا يمكنُ أن يُسوِّغَ القَسَامةَ؛ لأنه لو قال: «لِي دِرْهَمٌ عَلَى فُلاَنٍ، أو أُطَالِبُ فُلاَنًا بِكَذَا» لا يَثْبُتُ من ذلك شيءٌ، فكيفَ يَثْبُتُ به القتلُ ودمُ المعصومِ؟ ومالكٌ استدلَّ بهذه القصةِ، واستدلَّ أيضا بأن الإنسانَ إذا كان في آخِرِ عهدٍ من الدنيا زَالَ غَرَضُهُ من الكذبِ، وصارَ منتقلاً إلى دارِ الآخرةِ، وصارت الدَّوَاعِي إلى الكذبِ بعيدةً جِدًّا في حَقِّهِ، فالذي يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنه لا يُخْبِرُ إلا بِوَاقِعٍ.
وأجابَ الجمهورُ عن القصةِ قالوا (٣): هذه القصةُ لا يقاسُ عليها غيرُها؛ لأن هذا قتيلٌ أحياه اللَّهُ معجزةً لنبيٍّ، وأخبرهم - مثلاً - أنه يُحْيِيهِ، وأنه يخبرهم بِمَنْ قَتَلَ، وهذا الإخبارُ مستندٌ إلى دليلٍ قَطْعِيٍّ، فليس كإخبارِ قتيلٍ آخَرَ.
_________
(١) اللَّوْثُ: يطلق عند المالكية على الأمارة التي تغلب على الظن صدق مدّعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحَّط في دمه والمتهم نحوه أو قربه علبه آثار القتل، انظر: القرطبي (١/ ٤٥٩)، القاموس الفقهي ص٣٣٤، أضواء البيان (٣/ ٥٦٣).
(٢) انظر: القرطبي (١/ ٤٥٩)، أضواء البيان (٣/ ٥٦٣).
(٣) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (١/ ٢٤)، القرطبي (١/ ٤٥٧).
وفي إطلاقِه على الإلهامِ: قولُه: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ [النحل: آية ٦٨] أي: أَلْهَمَهَا.
فمعنَى: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ﴾ أي: يُلْقِيهِ إليه في خفاءٍ وسرعةٍ. ولذلك لَمَّا جاء عن المختارِ بنِ أبي عبيدٍ أنه ادَّعَى النبوةَ، وأنه يُوحَى إليه، وكانت أختُه صفيةُ بنتُ أَبِي عبيدٍ (رضي الله عنها) زوجةَ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ (رضي الله عنهما). فقيلَ لعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ: إن المختارَ ادَّعَى أنه يُوحَى إليه. قال: صَدَقَ!! قال اللَّهُ: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ﴾ (١) [الأنعام: آية ١٢١] فذلك وحيُ الشيطانِ، وهو ما يُلْقِيهِ الشيطانُ إلى قَرِينِهِ من الوساوسِ والزخارفِ لِيُضِلَّ بها الناسَ. ذلك هو وحيُ الشياطينِ. وهذا معنَى قولِه: ﴿يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: آية ١١٢] ذلك صادقٌ بأن شياطينَ الجنِّ يُوحُونَ إلى شياطينِ الإنسِ، كما يأتي في قولِه جل وعلا: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ﴾ أي: يُلْقُونَ إليهم الوساوسَ والأمورَ. وكذلك يُوحِي بعضُ شياطينِ الإنسِ إلى بعضِ شياطينِ الجنِّ. وهو على ثلاثةِ أنحاءَ؛ لأن شياطينَ الجنِّ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ، ويوحونَ إلى شياطينِ الجنِّ، كما أن شياطينَ الإنسِ يوحونَ إلى شياطينِ الإنسِ. فهذا وحيُ الشياطينِ بعضِهم لبعضٍ.
وعن مالكِ بنِ دينارٍ (رحمه الله) أنه قال: إن شيطانَ الإنسِ أشدُّ عَلَيَّ مِنْ شيطانِ الجنِّ؛ لأن شيطانَ الجنِّ أَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ منه فيذهبُ عَنِّي،
_________
(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٤/ ١٣٧٩) وأورده ابن كثير في التفسير (٢/ ١٧٠)، نقلاً عن ابن أبي حاتم، كما أخرج ابن أبي حاتم (٤/ ١٣٧٩) نحوه عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، وَأَثَرُ ابنِ عباسٍ هذا أخرجه - أيضا - ابن جرير (١٢/ ٨٦).
صحته، وأن الصحابة كذلك كانوا يفعلون، يُلحقون المسكوت عنه بالمنطوق به، وهذا كثير، وقد مثلنا له بأمثلة كثيرة.
[٥/أ] / يقول الله جل وعلا: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)﴾ [الأعراف: آية ٣١] قَدْ تَقَرَّر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول أن له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو معروف في مصطلح الحديث (١). وإذا علمتم ذلك فاعلموا أن مسلم بن الحجاج (رحمه الله) في آخر صحيحه أخرج عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير أنَّ هذه الآية الكريمة من سورة الأعراف نزلت فيما كان يفعله المشركون من أنهم يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله النهي عن ذلك (٢)، والتجمل بلباس الزينة، وستر العورة للطواف وللصلاة في جميع المساجد، فالسبب خاص واللفظ عام، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب (٣) كما سنوضحه إن شاء الله.
والمعروف في مختلقات (٤) العرب التي كانوا يفعلون: أنَّ غير الحُمس، والحُمس: جميع قريش (٥)؛ لأنَّ من قريش أهل بطاح
_________
(١) انظر: معرفة علوم الحديث ص٢٠، البرهان للزركشي (٢/ ١٧٢)، النكت على ابن الصلاح (٢/ ٥٣٠، ٥٣١)، تدريب الراوي (١/ ١٩٣)، قواعد التفسير (١/ ٥٤، ١٧٨).
(٢) مسلم في التفسير، باب قوله تعالى: ﴿خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ حديث رقم (٣٠٢٨)، (٤/ ٢٣٢٠).
(٣) مضى عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام.
(٤) انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (٦/ ٣٥٧).
(٥) المصدر السابق (٦/ ٣٦٢)، وانظر: ابن جرير (٣/ ٥٥٧).
بالتراب وصار فتاتًا ترابًا لعظمة رب العالمين (جل وعلا). فتبين لموسى أن الله لو تجلى له -يعني- لما أطاق ذلك؛ ولأن ما فتت الجبال لا يقدر على حمله موسى، هذا معنى الآية.
ومَعْلُوم أنَّ المُعْتَزِلة والخوارج وبعض الضُلاَّل يستدلون بهذه الآية من سورة الأعراف على أن رؤية الله مستحيلة بتاتًا في الدنيا والآخرة، ويزعمون أن (لن) في قوله: ﴿لَن تَرَانِي﴾ [١٨/ب] أنها للنفي المؤبد في المستقبل/ وأنها تنفي الرؤية مستقبلاً بتاتًا في الدنيا والآخرة، وأن موسى تاب إلى الله من هذا الطلب، حيث قال: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ (١).
والتحقيق الذي لا شك فيه الذي يجب على كل مسلم اعتقاده في شأن رؤية الله (جل وعلا) أنها بدار الدنيا جائزة عقلاً غير واقعة شرعًا، أما جوازها عقلاً فمن أعظم الأدلة عليه: أن نبي الله موسى طلبها من ربه، ولا يخفى على موسى الجائز عقلاً من المستحيل عقلاً، فمن المحال الباطل أن يكون نبي الله موسى يجهل المستحيل بحق الله ويعلمه أشياخ القدرية الجهلة الضُّلال!! أشياخ المعتزلة الجهلة الضُّلاّل!! هذا مما لا يكون ولا يقع!! فقول موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ يدل على أن رؤية الله في دار الدنيا جائزة عقلاً، والذي منع منها عجز الآدميين عن تحمُّلها؛ لأن الله لما تجلى للجبل انْدَكَّ الجبل، فما بالك باللحم والدم؟! فهي في دار الدنيا جائزة عقلاً، وأما في الآخرة فلا شك أنها واقعة، ومن أنكرها فهو
_________
(١) انظر: شبهتهم هذه والجواب عنها في شرح الطحاوية ص٢١٢، الأضواء (٢/ ٣٣٢)، دفع إيهام الاضطراب ص١٢٠ - ١٢٢ وراجع ما سبق عند تفسير الآية (١٠٣) من سورة الأنعام.
خفي ذلك على الإمام ابن جرير (رحمه الله)؛ لأن الكمال والعلم لله وحده.
والحاصل أنه قد تقرر في الأصول في مسلك (الإيماء والتنبيه) (١) أن من الحروف الدالة على التعليل، (إنّ) المكسورة المشددة، تقول: اضربه إنه مسيء. أي: اضربه لعلة إساءته، أكرمه إنه محسن. أي: أكرمه لعلة إِحْسَانِهِ. فـ (إن) من حروف التعليل. وعلى قراءة الجمهور فـ (إنّ) المكسورة دلت على التعليل. لا تظننهم سابقين فائتين معجزين ربهم، لا وكلا ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ لا يعجزون ربهم ألبتة، فيكون النهي عن قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا﴾ لأجل أنهم لا يعجزون أبداً، فلا يخطر في قلبك ذلك الحسبان الباطل.
أما على قراءة ابن عامر: ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ فـ (أن) قد تقرر في علم النحو أن المصدر المنسبك من (أنّ) وصلتها و (أنْ) وصلتها يجوز جره بحرف محذوف بقياس مطرد (٢). فالأصل: لا تحسبن الذين كفروا سبقوا؛ لأنهم لا يعجزون. غاية ما في الباب حذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من (أنّ) وصلتها، وهو واضح مطرد لا إشكال فيه، وقد عقد اطراده ابن مالك في خلاصته بقوله (٣):
_________
(١) جرى الأصوليون على اعتبار (إنَّ) ضمن مسلك النص، وبعضهم يعتبرها من قبيل النص الصريح، ويرى آخرون أنها من قبيل النص غير الصريح (الظاهر).
انظر: شرح الكوكب المنير (٤/ ١١٩)، نثر الورود (٢/ ٤٨٠)، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص٣٥٥.
(٢) مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة.
(٣) السابق.


الصفحة التالية
Icon