وأجابَ ابنُ العربيِّ في أحكامِه عن هذا قال: المعجزةُ إنما هي في إحياءِ القتيلِ، أما كلامُ القتيلِ، فهو كسائرِ كلامِ الناسِ، يجوزُ في حَقِّهِ أن يكونَ حَقًّا، وأن يكونَ كَذِبًا.
وعلى كُلِّ حَالٍ فهذا الفرعُ خَالَفَ فيه مَالِكًا جمهورُ العلماءِ.
وقولُه جل وعلا: ﴿كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى﴾ فيه دليلٌ على أن قصةَ إحياءِ هذا القتيلِ من الأدلةِ على البعثِ، وقد بَيَّنَّا فيما مضى خمسةَ أمثلةٍ منها في هذه السورةِ الكريمةِ (١).
وقوله: ﴿وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ ﴿وَيُرِيكُمْ﴾ مضارعُ (أَرَاهُ)، أصلُها يُرئيكم آياتِه. أي. يُبَيِّنُهَا لكم حتى تَرَوْهَا. ﴿آيَاتِهِ﴾ الآية: تُطْلَقُ في اللغةِ إِطْلاَقَيْنِ، وتطلقُ في القرآنِ إطلاقين، وجمهورُ علماءِ العربيةِ أن أصلَ وزنِ الآيةِ (أيَيَة) فهي وزنُها: (فعَلَة) فاؤها همزٌ، وعينها ياءٌ، ولامها ياءٌ، اجتمع فيها مُوجِبَا إِعْلاَلٍ، على القاعدةِ المقررةِ في التصريفِ، التي عَقَدَهَا في الخلاصةِ بقولِه (٢):

مِنْ [وَاوٍ أَوْ يَاءٍ] (٣) بِتَحْرِيكٍ أُصِلْ أَلِفًا ابْدِلْ بَعْدَ فَتْحٍ مُتَّصِلْ
والأصلُ المشهورُ أن يكونَ الإعلالُ في الأخيرِ، فالجاري على القياسِ أن يقالَ: أياة، وتُبْدَلُ الياءُ الأخيرةُ أَلِفًا، إلا أنه أُبْدِلَتْ هنا الياءُ الأُولَى (٤). وإعلالُ الأولِ من الحرفين اللذَيْنِ اجتمعَ فيهما مُوجِبَا إعلالٍ موجودٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ، كآيةٍ، وغايةٍ.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥٦) من هذه السورة.
(٢) الخلاصة ص٧٧، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ٦٢٢).
(٣) في الأصل: ياء أو واو.
(٤) انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص٤٢.
وشيطانُ الإنسِ يجيئني فَيَجُرُّنِي إلى المعصيةِ عيانًا (١).
وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ (جل وعلا) قَدْ بَيَّنَ علاجَ ما يريدُ أن يضرَّك من شياطينِ الإنسِ والجنِّ في ثلاثِ آياتٍ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذينَ يحاولونَ ضُرَّكَ وعداوتَك من شياطينِ الإنسِ لهم علاجٌ سَمَاوِيٌّ، وأن أمثالَهم من شياطينِ الجنِّ لهم علاجٌ سماويٌّ، وبينَ علاجِ هذا وهذا في ثلاثةِ مواضعَ من كتابِه، فَبَيَّنَ (جل وعلا) أن الذي يريدُ أن يَضُرَّكَ من الإنسِ، ويجرُك إلى ما يضرُّك كعملِ الشياطين، يعاديكَ ويترقبُ لكَ الضررَ أَنَّ دواءَه الوحيدَ الذي يُنْجِيكَ منه هو أن لا تَتَّبِعَهُ في شَرٍّ، وأن تعاملَه مكانَ السيئةِ بالحسنةِ، فإذا أساءَ إليكَ سَتَرْتَ إساءَته وقابلتَها بالإحسانِ فيندحرُ وينكسرُ، ويكونُ صَدِيقًا بعدَ أن كان عَدُوًّا، وأما شيطانُ الجنِّ فإنه لا علاجَ له ألبتةَ إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) منه؛ لأن المُلاينةَ لا تزيدُه إلا طغيانًا، وأنتَ لا تَرَاهُ لتنتصفَ منه، فلاَ دواءَ له إلا الاستعاذةَ بالله (جل وعلا) من شَرِّهِ.
الموضعُ الأولُ من هذه المواضعِ الثلاثةِ: قولُه تعالى في أخرياتِ سورةِ الأعرافِ: في شياطينِ الإنسِ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (١٩٩)﴾ [الأعراف: آية ١٩٩] أَيْ: عَامِلْهُمْ بالعفوِ واللينِ والإعراضِ عن سيئاتِهم. ثم قال في شيطانِ الجنِّ: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)﴾ [الأعراف: آية ٢٠٠].
الموضعُ الثاني في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) وهو قولُه في الإنسيِّ الْمُعَادِي: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ أي: ادْفَعْ سيئةَ
_________
(١) ذكره القرطبي في التفسير (٧/ ٦٨)، وأبو حيان في البحر (٤/ ٢٠٧).
وأهل ظواهر، وجميعهم هم وحلفاؤهم يُسمّون: «الحُمس» وأهل البطاح منهم: أولاد كعب فما دونه، وما فوق كعب وهم بنو عامر بن لؤي، وبنو الحارث بن فِهْر، وبنو محارب بن فِهْر من قبائل قريش، هؤلاء كانوا ليسوا ببطاح مكة بل بالظواهر، فهؤلاء أهل ظواهر، وهؤلاء الأبطحيون في نفس بطحاء مكة، والجميع يسمون: «الحُمسْ» هم قريش بجميعها أهل بطاحها وأهل ظواهرها، كانت عادة العرب في الجاهلية أن الإنسان إذا جاء يريد الطواف ببيت الله الحرام إن كان له صديق من الحُمس أعطاه ثوباً يطوف فيه، وذكروا أن النبي ﷺ في الجاهلية -قبل البعثة- كان له صديق من بني تميم هو عياض بن حمار الذي كان بعد ذلك صحابيّاً كريماً، وكان النبي ﷺ إذا أراد عياض بن حمار أن يطوف أعاره ثوبه ليطوف فيه كما هو معروف في التاريخ (١). فإن أعاره أحد الحُمس ثوبه طاف فيه، وإن لم يجد من يعيره من الحُمس ثوباً فإن كان ثوبه جديداً -لم يلبسه قبل ذلك- طاف فيه، ولكنه عندما يطوف فيه يلقيه من حاله ويذهب عرياناً؛ لأنهم يقولون: لا نطوف بيت الله بثياب عصينا الله فيها، أو يتفاءلون أنهم يخرجون من الذنوب ويتعرَّوْن منها كما تعروا من الثياب (٢). وهذه تشريعات الشيطان. والإنسان منهم إذا طاف في ثوبه لا بد أن يلقيه، وإن لم يُلْقه ضربوه حتى يلقيه وسمى ذلك الثوب (لَقَى) وهو معروف في التاريخ؛ لأن (اللَّقى) هذا الثوب الذي يلقيه من طاف فيه يبقى طريحاً تدوسه أقدام الناس في المطاف (٣).
_________
(١) انظر: الاستيعاب (٣/ ١٢٩).
(٢) انظر: المفصل (٦/ ٣٥٩).
(٣) انظر: القرطبي (٧/ ١٨٩)، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (٦/ ٣٥٩).
ملحد في دين الله، ضال مُضل منابذ للسنة المتواترة والقرآن العظيم. فلا شك أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وقد جاءت آيات تدل على ذلك كقوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣)﴾ [القيامة: الآيتان ٢٢، ٢٣] وقوله: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (١٥)﴾ [المطففين: آية ١٥] يفهم من دليل خطابه -أعني مفهوم مخالفته- أن المؤمنين ليسوا يومئذ محجوبون عند ربهم، وقد استحسن العلماء استدلال الإمام الشافعي (رحمه الله) بهذه الآية على رؤية الله يوم القيامة (١)، أما الأحاديث فَحَدِّثْ ولا حَرَج، فقد تواترت الأحاديث الصحاح في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد والأجزاء عن نحو من عشرين صحابيًّا كرامًا فضلاء عن النبي ﷺ أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ولا يكاد ينازع من له إنصاف، في تواتر أحاديث رؤية الله يوم القيامة (٢).
وجاء في الصحيحين وغيرهما [أحاديث كثيرة تدل على ذلك، وقد] (٣) روى رؤية الله يوم القيامة عن النبي ﷺ نحوٌ مِنْ عِشْرِين صحابيًّا، والأحاديث في ذلك متواترة مشهورة منها: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيانًا» «هَلْ تُضارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ؟ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَذَلِكَ» (٤) «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ اللهَ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ» وأحاديث الرؤية صحيحة
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (١٠٣) من سورة الأنعام.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٠٣) من سورة الأنعام.
(٣) في هذا الموضع كلام غير واضح، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٤) جاء ذلك من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢)... ﴾ حديث رقم: (٧٤٣٧)، (١٣/ ٤١٩).
ومسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم: (١٨٢)، (١/ ١٦٣)، ومن حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (٢٢)... ﴾ حديث رقم: (٧٤٣٩)، (١٣/ ٤٢٠) ومسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية. حديث رقم: (١٨٣)، (١/ ١٦٧).
ومن حديثهما كما في البخاري (الكتاب والباب السابقان)، حديث رقم: (٧٤٣٨)، (١٣/ ٤٢٠)، ومسلم (الكتاب والباب السابقان). حديث رقم: (١٨٢)، (١/ ١٦٣).
ومن حديث جرير البجلي (رضي الله عنه) عند البخاري في مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر. حديث رقم: (٥٥٤)، (٢/ ٣٣)، وأطرافه: (٥٧٣، ٤٨٥١، ٧٤٣٤، ٧٤٣٥، ٧٤٣٦).
ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: فضل صلاتي الصبح والعصر، حديث رقم: (٦٣٣)، (١/ ٤٣٩).
................................... وإنْ حُذِف فالنَّصْبُ للمُنْجَرِّ...
نقلاً وفي (أنَّ) و (أنْ) يطَّرِِدُ مع أَمْنِ لبسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُو
فقراءة ابن عامر دالة على التعليل الذي دلت عليه قراءة الجمهور بقياس عربي واضح مطرد لا إشكال فيه، وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (٥٩)﴾ (يعجزون) مضارع (أعجز)، أعجزه: إذا صيَّره عاجزاً عنه، فكل شيء غلبك ولم تقدر عليه تقول العرب: أعجزك وسبقك وفاتك. بمعنى واحد ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ ربهم. أو: لأنهم لا يعجزون ربهم، بل ربهم قادر عليهم، كما قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: الآية ٢] وهذا معنى قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ [الأنفال: الآية ٥٩].
﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)﴾ [الأنفال: الآيتان ٦٠، ٦١].
قوله: ﴿وَأَعِدُّواْ﴾ [الأنفال: الآية ٦٠] أمر من الإعداد، والإعداد في لغة العرب التي نزل بها القرآن: معناه اتخاذ الشيء، وادخاره إلى وقت الحاجة إليه، فكل شيء اتخذته وجعلته عندك تنتظر به وقت الحاجة إليه فَقَدْ أعْدَدْتَهُ. والأمر في قوله: ﴿وَأَعِدُّواْ﴾ للوجوب؛ لأن المقرر في الأصول: أن


الصفحة التالية
Icon