والآيةُ تُطْلَقُ في لغةِ العربِ إطلاقين (١): تطلقُ الآيةُ بمعنى: (العلامةِ).
وهذا إطلاقُها المشهورُ. ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ (٢):
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
ثم صَرَّحَ بأن مُرادَه بالآياتِ علاماتُ الدارِ في قولِه:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبِينُهُ وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ
ومن هذا المعنى قولُه: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾ أي: علامةُ مُلْكِهِ ﴿أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ﴾ الآيةَ... [البقرة: الآية ٢٤٨].
وتطلق الآيةُ على: (الجماعةِ)، تقول العربُ: جاء القومُ بآيتِهم، أي: بجماعتِهم، ومنه قولُ بُرج بن مُسهر (٣):
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلاَ
أي: بِجَمَاعَتِنَا.
والآيةُ تُطْلَق في القرآنِ إطلاقين: آيةٌ كونيةٌ قدريةٌ، كقولِه: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ﴾ [آل عمران: الآية ١٩٠] وهذه الآيةُ الكونيةُ القدريةُ من (الآية) بمعنى (العلامةِ) باتفاقٍ، أي: لَعَلاَمَاتٍ على كمالِ قدرةِ مَنْ وَضَعَهَا، وأنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه.
_________
(١) انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الهمزة، باب: الهمزة والياء وما يثلثهما في الثلاثي، (مادة: أيي) (١/ ١٠٢)، القاموس (مادة: أيي) (١٦٢٨)، الأضواء (٤/ ٣٨ - ٣٩).
(٢) مضى عند تفسير الآية (٤٦) من هذه السورة.
(٣) القرطبي (١/ ٦٦)، اللسان (مادة: أيا) (١/ ١٤٠).
الإنسيِّ بِالْحُسْنَى ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (٩٦)﴾ ثم قال في نظيرِه من شياطينِ الجنِّ: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨)﴾ [المؤمنون: الآيات ٩٦ - ٩٨].
الموضعُ الثالثُ: في سورةِ (حم السجدةِ) - سورة فصلت -: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ فيها أن هذا العلاجَ السماويَّ لاَ يُعْطِيهِ اللَّهُ لكلِّ أحدٍ، بل لا يُعْطِيهِ إلا لِمَنْ جَعَلَ له البختَ الأعظمَ والنصيبَ الأوفرَ عنده؛ ولذا قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ يعني: ادْفَعْ عداوةَ شيطانِ الإنسِ بالتي هي أحسنُ، ثم قال: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤)﴾ أي: صديقٌ في غايةِ الصداقةِ، ثم بَيَّنَ أن هذا لاَ يُعْطَى لكلِّ الناسِ، قال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)﴾ ثم قال في شيطانِ الجنِّ: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)﴾ [فصلت: آية ٣٦].
فعلينا معاشرَ المؤمنين أن نقدرَ هذا العلاجَ السماويَّ، ونعاملَ مَنْ عَادَانَا وأرادَ ضُرَّنَا من إخوانِنا المؤمنين بالصفحِ والإحسانِ، ومقابلةِ السَّيِّئِ بالجميلِ، حتى تنكسرَ شوكةُ شُؤْمِهِ، فيرجع خَجِلاً صديقًا حميمًا، ونستعيذُ من الشيطانِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ لِيَكْفِيَنَا شَرَّهُ.
وهذا الذي نقوله فيمن يُعَادِيكَ من إخوانك المسلمين، وأمثالِهم ممن لهم حرمةٌ، كالكتابيِّ الذي تحتَ ذمةِ الإسلامِ، الذي له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. أما الكفرةُ الْحَرْبِيُّونَ فلا مُلاَيَنَةَ معهم، وإنما معهم الشدةُ والغلظةُ، كما قال اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: آية ٧٣] ومَدَحَ المؤمنينَ
وبعضهم قالوا: يُلقون (اللَّقى) في منى، ومنه قول الشاعر (١):
كَفَى حَزَناً كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ | لَقىَ بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ |
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ |
يقول: إن معنى الآية: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ [الأعراف: آية ٣١] يعني: خذوا زينة اللباس واستروا بها عوراتكم عند الطواف بالبيت والصلاة. والآية وإن كان سبب نزولها في طوافهم بالبيت عراة فلفظها عام لكل مسجد. والمقرر في الأصول: أن اللفظ إن كان عامّاً
_________
(١) البيت في القرطبي (٧/ ١٨٩)، السيرة لابن هشام (٢٢٠/ ١).
(٢) انظر: المفصل (٦/ ٣٥٨).
(٣) هذا البيت ينسب لضباعة بنت عامر بن صعصعة. وهو في صحيح مسلم (٤/ ١٣٢٠)، وابن جرير (١٢/ ٣٧٧، ٣٨٩، ٣٩٠، ٣٩١، ٣٩٣)، القرطبي (٧/ ١٨٩)، المفصل (٦/ ٣٥٨).
(٤) تقدم تخريجه قريباً.
متواترة لا يطعن فيها إلا ملحد، والمعتزلة يحاولون دفعها، وهي لا تُدفع بالتأويلات الباطلة، والكلام الذي لا طائل تحته، فتحصّل أن التحقيق أن رؤية المؤمنين لربهم أنها في دار الدنيا جائزة عقلاً، وأنها في الآخرة واقعة شرعًا، فهي في دار الدنيا جائزة عقلاً غير واقعة شرعًا، وفي الآخرة واقعة شرعًا بلا نزاع ممن يُعتد به لتصريح النبي ﷺ بذلك في الأحاديث المتواترة.
وما استدل به المعتزلة على استحالة رؤية الله: أما الأدلة العقلية التي يزعمون فكلها فلسفات باطلة لا طائل تحتها، كزعمهم أن رؤية الله تستلزم الجهة، وأن ذلك محال، وتستلزم أنواعًا من المقابلات، وأن كل ذلك محال، وأنهم يقولون: لو خيلنا أن بين العبد وربه حين
صيغة (افعل) تدل على الوجوب ما لم يصرف عن ذلك صارف (١) [من] (٢) كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ونعني بصيغة (افعل): الصيغ الأربع الدالة على الأمر الذي هو اقتضاء طلب الفعل. والصيغ الدالة على الأمر أربعاً (٣): فعل الأمر، كقوله هنا: ﴿وَأَعِدُّواْ﴾ وكقوله: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ [الإسراء: الآية ٧٨] والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ [الحج: الآية ٢٩] واسم فعل الأمر، نحو: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ﴾ [النساء: الآية ١٠٥] والمصدر النائب عن فعله، نحو: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: الآية ٤] أي: فاضربوا رقابهم.
ولعلماء الأصول اختلاف في صيغة (افعل) إذا جاءت في كلام الله أو كلام نبيه ﷺ وتجردت عن القرائن ماذا تفيده عند الإطلاق (٤)، هل هو الإيجاب المتحتم، أو الندب، أو الطلب؟ إلى غير ذلك من الأقوال.
والتحقيق الذي دلت عليه الأدلة: أن النصوص الشرعية واللغة العربية التي نزل بها القرآن كلها يدل على أن صيغة (افعل) تقتضي الوجوب ما لم تقترن بدليل يصرفها عن ذلك، والدليل على ذلك من القرآن: أن الله (جل وعلا) قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأنعام.
(٢) في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف.
(٤) مضى عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأنعام.